فى نهاية الأربعينيات هتف عدد كبير من المطربين والمطربات فى نقابة الموسيقيين، قائلين بصوت نشاز «أخى جاوز الظالمون المدى/ جاءت صباح بعد نور الهدى».
والمقصود بالظالمين الفنانون القادمون من الدول العربية، ولم تنقذ الموقف سوى نقيبة الموسيقيين فى تلك السنوات الرائعة أم كلثوم التى رفضت الانصياع إلى تلك الرغبة المجنونة الحاقدة التى أطلقها عدد من محدودى وأنصاف الموهوبين عندما اعتقدوا أن منع الفنان العربى سيمنحهم المساحة كلها ولهذا طالبوا بغلق أبواب مصر أمام صباح اللبنانية، وكانت قد سبقتها بسنوات قليلة أيضا من لبنان نور الهدى.
بين الحين والآخر نجد الفنانين المصريين حائرين يتساءلون فى جنون: كيف لفنان عربى أن ينطق اللهجة أو يؤدى شخصية مصرية أليسوا هم الأولى؟ فى لحظات يعلو ثم يخبو هذا الصوت، ولكنه تردد بقوة فى الأيام الأخيرة، خصوصا مع اقتراب عرض مسلسل «صديق العمر» الذى يؤدى فيه النجم السورى جمال سليمان شخصية جمال عبد الناصر.
اسم عبد الناصر صار مرادفًا لمصر، فهو يستدعى على الفور زمن الزهو والعزة والقومية قبل انكسارة 67، وعلينا أن ننتظر ما الذى سيسفر عنه المسلسل، خصوصا أن هناك أيضا باسم سمرة الذى يؤدى دور عبد الحكيم عامر، وأراها مبارزة فى الأداء. سألنى بعض الزملاء فأجبت: لا بأس على الإطلاق والمشاهِد لا يسأل فى العادة عن جواز السفر، أنا شديد الإعجاب بموهبة جمال سليمان، فهو الذى فتح الباب بقوة للفنان العربى للوجود فى الدراما المصرية بعد هذا النجاح غير المسبوق الذى حققه بدوره مندور أبو الدهب قبل 8 سنوات فى مسلسل «حدائق الشيطان»، تجارب جمال فى الأعمال الدرامية القاهرية لم تكن مقنعة بالنسبة إلىّ بالقياس إلى المسلسلات التى أدى فيها دورَ صعيدىٍّ، وعبد الناصر الصعيدى الجذور والنشأة كان يتحدث باللهجة القاهرية، ولن يغفر الجمهور له أى خطأ، وأتصور أن جمال يدرك تلك الخطورة.
الأمر ليس له علاقة بالجنسية، مثلًا هند صبرى من أكثر الفنانات قدرة على أداء شخصية بنت البلد المصرية لديها استعداد فطرى للتقمص، رغم أن الأساس هو الإحساس بالمشاعر، ولكن الإطار الخارجى للشخصية فى الحركة واللهجة لا يمكن للمؤدى إلا أن يتماثل معه.
أتذكر أن المطرب مدحت صالح طالب أكثر من مرة وبنفس المنطق بأن لا يغنى المطرب العربى إلا لهجة بلاده، وهى دعوة غريبة، تعنى لو طبقناها بأثر رجعى وحتى الآن نفقد أكثر من 25% من تراثنا الغنائى المصرى، ألم يغنِّ فريد وصباح وأسمهان وسعاد محمد وفايزة ووردة ونجاح سلام ونور الهدى وفهد بلان، وغيرهم وصولًا لجيل الوسط لطيفة وسميرة ثم راغب ونانسى وإليسا وهيفاء والجسمى، وغيرهم بالمصرية.
الفنان العربى عندما يأتى لهوليوود الشرق يفضل من أجل سرعة الانتشار الأداء باللهجة المصرية، وهو فى العادة لا يلقى من أهل بلده لومًا، لأنه يتخلى طواعية عن لهجته. العرب توافقوا على أن اللهجة المصرية منذ أن سكنت وجدانهم مع بدايات عصر الأسطوانة والفيلم الأبيض والأسود هى أيضا لهجتهم.
لماذا يحتج البعض؟ الإجابة المباشرة لأنه يعتقد أن مساحة وجوده تتأثر سلبًا بمزاحمة الآخرين، التجربة العملية أثبتت أن هذا قصر نظر اقتصادى وثقافى وسياسى وفنى.
لا أحد من الممكن أن يقتنص نجاح أحد، والفنان العربى عندما يغنى أو يمثل باللهجة المصرية يضيف إلى رصيدنا إحساسًا بمذاق خاص، عندما تستمع إلى نجاح سلام وهى تغنى «يا أغلى اسم فى الوجود يا مصر» و«أنا النيل مقبرة للغزاة»
أو وديع الصافى «عظيمة يا مصر» أو نانسى «أنا مصرى وابويا مصرى وخفة دمى مصرى» أو لطيفة «تبقى انت أكيد المصرى» أوحسين الحسمى «عينى على أهل كايرو» و«تسلم إيدينك» وغيرها وغيرها، أنه قصر ديل لمن يعتقدون أن الدنيا ستبتسم لهم لو اختفى كل الموهوبين من الحياة ليحتلوا هم كل المساحات، كان بعض المطربين المصريين يعتقدون أن حضور عبد الحليم يحجب عنهم النجاح، ولكنهم بعد رحيله الجسدى رحلوا هم أيضًا من الخريطة الفنية، الواقع أثبت أن من عاش فى الظل مع المضيئين، سيظل إلى الأبد مظلمًا حتى لو أطفؤوا من حوله كل المصابيح.