على طريق الزعفرانة مطعم يطل على شاطئ البحر الأحمر ويقدم الأسماك محاطًا بعشرات النقاط التى أقامها الصيادون لبيع بضاعتهم التى ما زالت تتحرك فى صناديق خشبية مليئة بالثلج. فى طريق الذهاب أو العودة سيجبرك المشهد على التوقف لاستطعام هذه الخيرات التى اختلطت رائحتها برائحة البحر وهواء الجبل، لا مجال للهروب من هذه الشهوة المطبقة على صدرك، يقين تام بأن ما ستأكله هنا فى هذا المكان وفى هذه اللحظة، وهذا الطقس سيتفوق روحًا ومضمونًا على أفخر مطاعم أسماك العاصمة.
سيبك من هذه المقدمة، فهذا ليس مقالًا فى حب الأسماك، ولكن عن المطعم، فعند الدخول أدهشنى مشهد بجعة كبيرة من ذوات الكيس الضخم أسفل فمها، هذا الكيس الذى تخزن فيه البجعة السمك قبل ابتلاعه. طائر من النادر أن تراه فى مصر مستقرًّا فى مكان مفتوح على الطريق، كان الطائر يبدو منهكًا ومنكسرًا وقد تبدّل لونُه الأبيض إلى لون الشاى باللبن، قادنى الفضول إلى السؤال عن وجود هذا الطائر فى هذا المكان خصوصًا بعدما رأيت المعاملة التى يتعرض إليها.
أصحاب المطعم اعتبروا الطائر وسيلة لتسلية الزبائن ولفت أنظارهم، خصوصًا أن الطائر معظم الوقت يرقد أمام باب المطعم مستكينًا. هناك من الزبائن مَن لا يفوتون فرصة الاستمتاع بهذا الطائر الأسير، فهذا الطفل النحيف الغلس الذى طلب صورة مع الطائر أصر على أن يفتح الطائر فمه فى الصورة، إصراره نسخة من (هات لى الحصان يا ابويا)، صاحب المطعم إفراطًا فى كرم الضيافة أمسك الطائر من رقبته الطويلة وظل يضربه بالكف على الكيس المتدلى من عنقه حتى يفتح فمه، حاول الطائر أن يتخلص من قبضته فلاحظت أنه (يعرج) وأن ثمة إصابة جسيمة فى ساقه، لكن والد الطفل والطفل ساعدا صاحب المطعم فى التكتيف والتلطيش إلى أن رضخ الطائر وفتح فمه، لا لكى يلتقط صورة لكن ليصرخ، لكن الصرخة لن تظهر فى الصورة فليس مهمًّا وعندما انفجر الفلاش فى وجهه أصيب بانهيار تام ورقد مكانه.. المشكلة أن الطفل عندما رأى الصورة لم تعجبه وطلب واحدة جديدة فتكرر السيناريو السابق بحذافيره.
سألت الجرسون فقال إن الطائر واحد من سرب طيور مهاجرة تعبر البحر الأحمر مع بداية الشتاء، ويبدو أنه كان مريضًا فلم يستطع استكمال المشوار فأخذناه نربيه ونكسب فيه ثوابًا، قلت له ربنا يكرمكم، فقال بفخر: هنعمل إيه بس؟ قلت له: ما تعملوش حاجة ربنا هيشوف شغله.
الصبى الذى يقف فى الحمام قال لى إن أحد الصيادين اصطاد هذا الطائر فى أثناء مرور السرب، واحتفظ به وكان يربطه بحبل أمام فرشة السمك، أعجبت الفكرة صاحب المطعم فاشتراه منه، عند الخروج من الحمام رأيت بعض العمال يحيطون بالطائر ويصرخون فى وجهه كالمجانين ليفزعوه فيرد بصرخات مماثلة والطفل النحيف ميت من الضحك، حاولت أن ألفت نظر صاحب المطعم إلى المأساة فى أثناء الحساب فقال «إحنا جايبينه يسلّى الأطفال»، فى تلك اللحظة كان المطعم كله يجرى ناحية الطفل النحيف الذى يبدو أنه ابتلع شوكة فأصابته (شرقة) أثارت هلع الجميع.
خرجت فوجدت الطائر ينام أمام المطعم منكسرًا وقد استحالت رائحة المكان جحيمًا بفعل مثانته التى انفجرت، توقعت أنه يومًا ما سيجرى على الطريق وسيلقى بنفسه أسفل عجلات سيارة نقل ثقيل لينهى هذه المأساة.
لو كنت أؤمن بنظرية أن روح الشخص بعد موته تدخل فى جسد آخر فى حياة جديدة، لقلت إن هذا الطائر كان قبل ذلك تاجر مخدرات أدخل الحزن والخراب والموت على قلوب مئات العائلات فاستحق هذا المصير المهين، أما لو كان رجلًا صالحًا- استكمالًا للمعتقد السابق- لكان الآن عصفورًا نحيلًا يقف على شباك مطبخ فى بيت ريفى يستمتع بتأمل العروس الجديدة وهى تطبخ فى انتظار زوجها وتغنى مع صوت نجاة القادم من الراديو «دوار حبيبى طراوة آخر طراوة» بينما تلقى له كل قليل على طرف الشباك بعض حبات الأرز الذى نضج.
طبعًا حضرتك كـ(مباحث كتابة) تسألنى عن الدرس المستفاد من قصة اليوم، صدقنى لا توجد دروس هى مجرد حكاية، لكن إن كنت مصرًّا فإليك واحد (حاول أن لا تقع أسيرًا فى يد من لا يعرف قيمتك).
(دوار حبيبى طراوة.. كلمات مرسى جميل عزيز وألحان محمد الموجى، وبالمناسبة الأكل كان وحش).