.. أما مناسبة الحديث الآن عن الخراب والعفَن الذى ضرب البنيتان «التحتية» و«الفوقية» فى مجتمعنا بعد نحو أربعة عقود من التآكل والتدمير المنظم لمقدرات الوطن المادية وقدراته العقلية وثروته الروحية، عبر سياسات اقتصادية واجتماعية إجرامية أنتجت وأشاعت فقرا مروعا وبؤسا شاملا وكرّست الجهل وانتصرت للقبح والقسوة والجلافة، ووفّرت بيئة مسمومة نموذجية تخلقت وانتعشت تحت ظلالها الثقيلة ظاهرة التجارة الحرام فى الدين.. المناسبة هى «معركة منابر المساجد» الدائرة حاليا بين الدولة من جهة (ممثلة فى وزارة الأوقاف) وبقايا جماعات التخلف التى اختلست لسنوات طويلة دين الإسلام وجرجرته من مكانه ومكانته السامية فى العقول والقلوب إلى ظلمات الجهل والتأخر والابتذال، وصنعت من قداسته أردية و«جلاليب» جاهدت لكى تستر بها أبشع وأحط الأفكار والضلالات العقلية توجها وأكثرها ظلما وفحشا ووحشية.
لقد خاضت الدولة المصرية، بعد أن أسقط شعب مصر حكم العصابة الإخوانية فى الصيف الماضى، حربا باسلة (تأخرت كثيرا) لتحرير مساجدنا من الاحتلال «الإخوانى السلفى» الغاشم، وتطهير منابر الخطابة فى جوامعنا ممن حولوها إلى منصات إطلاق لأبشع أسلحة الدمار الشامل للعقل والروح، بل والأخلاق أيضا، وكانت هذه المنابر المسروقة واحدة من أقوى أسباب نجاح هذا النوع الخطير من الفاشيات فى «نشل» ثورة 25 يناير وبهدلتها وتجريدها من أنبل أهدافها، ومن ثم الصعود فوق أشلائها إلى سدة حكم مصر، قبل أن تدرك الأغلبية الساحقة من شعبنا بسرعة مثيرة للإعجاب (مستعينة بميراث تحضّرها الأصيل الراقد تحت قشرة التخلف الطارئ) حجم المصيبة الوجودية التى تهدد الوطن دولة ومجتمعا، إذا ما مدت حبال الصبر لهذه العصابة حتى «تتمكن» من بث سمومها فى جسد البلد المنهك وتصبغ بالسواد لون مستقبل أجيالنا الصاعدة التى كانت وقود الثورة المسروقة.
وبدايةً، لا بد من تحية حارة واجبة للدكتور مختار جمعة وزير الأوقاف الذى، يقود منذ شهور، بشجاعة وجسارة، هذه الحرب التحريرية النبيلة الهادفة إلى استعادة بيوت الله وإنقاذها من أعداء الحياة وحراس التأخر وسدنة الخراب والجلافة، فالرجل يخوض مع رجاله وفى ظل ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد، معارك حامية الوطيس لكى ينفذ قرارا تاريخيا أصدره فى شهر سبتمبر الماضى يقضى بإنهاء أخطر مظاهر تلك الفوضى العارمة التى سهّلت احتلال جيش جرار (يبلغ قوامه أكثر من 50 ألفا ينتمون إلى قطعان الجهالة والإرهاب) لمساجدنا وجوامعنا، وحظر على غير الدعاة الأزهريين المؤهلين والمرخص لهم من الوزارة، اعتلاء منابر الخطابة فى دور العبادة الحكومية والأهلية، كما قضى القرار بأن المساجد الجامعة هى المكان الطبيعى الوحيد الملائم لصلاة الجمعة ومن ثم منع إقامتها فى الزوايا و«الدكاكين» الضِّرار البائسة التى بناها ونشرها فى ربوع البلاد خليط عشوائى لم يغب عنه نصابون ولصوص ومشعوذون وإرهابيون عتاة وتجار دين وأفاقون من كل نوع، راحوا على مدى السنين يستغلونها فى ممارسة العبث والعربدة فى عقول خلق البسطاء من دون رادع ولا ضمير.
غير أن جيش التخلف والضلال والظلام، لم يكن متوقعا أن يستسلم بسهولة وينسحب طواعية من بيوت الله التى اغتصبها، لهذا وجدنا قادته يتوسلون أحيانا بالمراوغة والمخاتلة وأحيانا أخرى بالبلطجة وقلة الأدب كما حدث يوم الجمعة الماضى عندما انقضّ فجأة (فى عملية منسقة وممنهجة) 26 من نجوم فتاوى الشَّيْن والعار، على عدد من المساجد فى مدن ومحافظات مختلفة، وتمكن بعض هؤلاء من القفز عنوة على منابر الخطابة ومنعوا بالقوة الدعاة الأصليين من أداء واجبهم.. هذه الواقعة يجب أن لا تمر من دون حساب صارم وعقاب رادع لعل وعسى يقتنع الظلاميون الأجلاف أن عقارب ساعة الحق لن تعود إلى الوراء، وأن عصر التسيب والتراخى فى تطبيق القانون، راح وانتهى خلاص وإلى الأبد.
وأختم، بتكرار التحية للشيخ مختار جمعة ورجاله البواسل الساهرين على حماية عقول وأرواح الناس من عربدات قطعان الجهالة وحراس التخلف.