مهما كانت العتمة، فإن هناك بصيصا من نور تستطيع أن تُمسك به لو أطلت النظر وأمعنت التأمل. تفاصيل دقيقة لواقع الحياة التى تتجاوز حدود الفقر إلى الانسحاق أمام القدر، ورغم ذلك ومهما اشتدت قتامة الصورة، يبقى هناك انفراجة قادمة. أتحدث عن مصر وعن السينما المصرية التى استقبلت موهبة شديدة العمق والخصوصية، إنها المخرجة هالة لطفى. أطلت هالة من خلال مهرجان «أبو ظبى» مع فيلمها «الخروج للنهار»، وحصلت على جائزة النقاد العالميين، وعلى جائزة أحسن إخراج فى قسم آفاق جديدة للعمل الأول. ومنذ ذلك الحين وهى تحصد الجوائز فى الخارج، بينما فى الداخل يتم حصار الفيلم، ويتفق أصحاب دور العرض على سحقه، حتى أطل علينا من خلال «زاوية» التى تُشرف عليها ماريان خورى مع عدد محدود آخر من السينمات ليشرق فى أعماقنا نهار جديد.
ما تراه على الشريط يتجاوز ما يمكن أن نطلق عليه الصدق، إنها الحياة التى تمر رتيبة على تلك الأسرة المكونة من أب عاجز مشلول، غير قادر على التواصل مع الحياة، وأم تعمل ممرضة بالمستشفى، صنعت حولها سياجا من البرودة فى المشاعر، وابنة لا تجد حتى بقايا الحياة لتعيش عليها.
الأب على السرير غير قادر على رعاية نفسه، الابنة تبدو أشد اقترابًا للأب، الحوار محدود يكاد تفلت منه بين الحين والآخر مجرد شذرات هنا أو هناك، الصمت يسكن هذا البيت، ولكن بلاغة التعبير السينمائى هى الوجه الآخر للصمت.
فى هذا البيت الصغير ترى مصر الآن، لا أتحدث عن مصر قبل أو بعد الثورة، ولكن مصر التى تعيش الحياة بينما هى فى الواقع لا تعيشها.
السرير كان هو البطل، والمرتبة الطبية الرخيصة نسبيًّا «الكورية» الصنع كانت هى الأمل الذى سعت الابنة لشرائه لأبيها ولو بالتقسيط، وينتهى الأمر فى المشهد الأخير ونحن نرى الأم وهى تتولى يدويًّا تنجيد المرتبة، وتُخرج القطن العطن، بينما تسأل الابنة عن مكان دفن الأب.. لم يجدوا له ولهم مكانا على الأرض، فهل يعثرون على مكان تحت الأرض؟!
الصورة القاتمة التى تنضح بالتلقائية فى الأداء تتجاوز الواقع إلى معنى الحقيقة، تذوب تماما على الشاشة كل المفردات السينمائية كأنك لا تراها. حطمت المخرجة الحاجز الدرامى، كأنها تُقدم لنا قطعة من الحياة وتلمس ذلك بقوة فى أداء الممثلات دنيا ماهر الابنة، وسلمى النجار الأم، بينهما حالة من التناغم فى الأداء، كأنها مباراة «تنس طاولة» تتحرك فيها الكرة برشاقة، ولا تسقط أبدًا بعيدا عن الرقعة. الأب أحمد الشرف لم ينطق بكلمة واحدة، ولكن كانت عيناه تصرخ بالاستسلام للقدر الوشيك القادم لا محالة، أيضا فى مشهد واحد لا ينسى تتفوق دعاء عريقات.
المنزل هو الساحة الرئيسية للأحداث، يبدو قطعة مصرية تشم فيه رائحة الناس.. الشاب الذى يمت بصلة قربى إلى العائلة، ويأتى للمنزل للسؤال عن والدها، ولكننا نلمح أنه يريد الارتباط بالفتاة التى تجاوزت الثلاثين، ويشى الفيلم برغبة من جانبه ورفض منها.. نتابع الفتاة وهى تُمسك بالقليل المتاح لها تحاول أن تتزين عند الكوافير. إنها لا ترتدى الحجاب، وعلى الفور وفى الميكروباص تعتقد جارتها فى المقعد «دعاء عريقات» أنها مسيحية. الفتاة لم تتزوج وتعانى من حالة كبت أدت بها إلى نوع من الهلاوس، فتذهب للشيوخ لأنها مسكونة بالجن، وعندما لا تتمكن من طرده تلجأ إلى القسيس. إنها الطبيعة المصرية فى العلاقة مع المجهول الذى يحيطونه بهالة من القدسية. البطلة مرتبطة بشاب لا نراه، ونكتشف أنه يتهرب منها، وندرك أنه لن يكمل معها الطريق.
اختيارات عبقرية لأماكن التصوير.. الوصول إلى الحدود الدنيا فى استخدام الإضاءة لمدير التصوير محمود لطفى، للحفاظ على روح الحياة فى الفيلم. الأماكن التى تجرى فيها الأحداث تُصبح ملامح خاصة لكل من وما تراه على الشاشة.
لم تكن هناك موسيقى تصويرية، لأن الشاشة بتفاصيلها سيمفونية مرئية.. هى فى سياق هذا الفيلم تحديدًا من الممكن أن تُخرجنا عن حالة الفيلم، ولكننا نتعايش فى الأحداث مع أغنية لأم كلثوم «أنا وانت ظلمنا الحب» ودويتو غنائى «طال انتظارى» لمحمد عبد الوهاب وليلى مراد.
الحكاية التى يرويها الفيلم تبدو متكررة آلاف وربما ملايين المرات، ولهذا ليست هناك حكاية، ولكننا نتعايش مع مصر على مدى ساعة ونصف الساعة على الشاشة.
هل بطلة الفيلم تستسلم للواقع أم تتحايل عليه؟ الفيلم لا يقدم موقفًا ثوريًّا نتبناه أو نرفضه، ولا يعنيه أيضا أن توافق على منطق الشخصيات، ليس هذا هو هدف الفيلم ولكننا فقط نرى مصر ومصريين.
سينما لا تخضع إلا لصدق الإحساس، كأنها الأصل ويبقى ما هو خارج تلك السينما كأنه هو الصورة، حقيقة الحياة هى فقط التى عشناها فى «الخروج للنهار»!!
المشاهد طرف إيجابى، المخرجة تمنحك بداية الخيط وأنت تُكمله، ترسم الخطوط العريضة للشخصيات والملامح وأنت تضع باقى التفاصيل كما يحلو لك.
ملحوظة: الفيلم الاستثنائى فى تاريخ السينما المصرية خلال السنوات العشر الأخيرة يستحق أيضا حالة دافئة واستثنائية من النقد، ولهذا أعيد نشر هذا المقال بعد أكثر من عام ونصف العام!!