تقول الكاتبة الكبيرة الراحلة سهير القلماوى «كلما بَعُد التاريخ عن القصص والخيال، ازداد بُعد العامة عن تذوقه وتعلمه»، أما وجه أبو الهول فليس صحيحا ما أشيع عن أن نابليون هو الذى شوهه بتوجيه مدفعيته إليه، لأنه لم يتحمل نظرته ورأى فيه سخرية مستفزة. يقول «المقريزى» إن المصريين كانوا يؤمنون أن أبو الهول هو طلسم الرمال، أى أنه التميمة التى تمنع زحف الرمال على المنطقة فتدفنها، وفى إحدى السنوات قام شيخ متعصب اسمه «محمد صائم الدهر» بحملة لإزالة المنكرات والتصاوير، ومن ضمنها طبعا أبو الهول، وظل يجاهد فى تحطيمه، إلى أن اكتفى بتشويه فمه وأنفه، إلى أن ظل على هذه الحال إلى يومنا هذا، وعندما علم الحاكم -وكان عام 781 هجرية- قبض عليه وقطعه إرْبًا وأمر بدفنه بجوار أبو الهول، الغريب أنه بعد تحطيم وجه أبو الهول، بدأ الرمل يزحف على المنطقة حتى غطى أراضى كثيرة من الجيزة كان يصل إليها النيل!
المصريون يقدسون ما يرثونه عن الأجداد، فما بالك لو كان الورث ذا صبغة دينية مثل أعتاب المساجد ومقامات الأولياء. كانت المعارضة شديدة لوطء العتبة بالقدم أو الجلوس فوقها. العتبات طاهرة، بل إن البعض كان يتداوى بلمسها، ومن هنا ظهرت أغنية الموروث الشعبى التى تعلم الطفل المشى «تاتا خطى العتبة.. تاتا حبه حبه»، تدرب الأم طفلها على أن تكون خطوته واسعة، بحيث «يخطّى من فوق العتبة» دون أن يدوس عليها.
الأبناء حاضرون بقوة فى أساطير المؤرخين، فيقول المقريزى «إن مصرايم بن مصر بن بيصر بن حام بن سيدنا نوح عليه السلام، بعد أن دان له حكم مصر من البحر إلى السودان، وزع أقاليم مصر على إخوته الثلاثين، فسمى كل واحد من أحفاد نوح الثلاثين إقليمه باسمه، وكانوا يرون الفضل فى ذلك لدعاء جدهم، وكان أسماء هؤلاء الأحفاد رشيد سيفه (الذى بنى مدينة بنى سويف)، وأشمون، وأسيوط، وتنا (قنا)، وجرجه (جرجا)، وأثوان (أسوان)، وحلفه (حلفا)، عليهم وعلى جدهم السلام».
قد تسألنى وما علاقة سيدنا نوح بمصر؟ يقول البكرى فى «الروضة المأنوسة» إن نوحًا عليه السلام لما طاف الأرض بالسفينة صار كلما مر ببلدة خرجت ملائكتها التى تتولى حراستها لتحيته، إلى أن وصل إلى مصر، فلم يخرج إليه أحد، فأوحى إليه الله بأن لا تعجب، فكل بلد قيدت لها ملائكة لحراستها ما عدا مصر، فإننى توليت حراستها بنفسى، فلما أراد نوح تقسيم الأرض بين بنيه أعطاها لحفيده «مصر». قد تسألنى عن «الفيوم».. يقول ابن إياس إن الله أوحى لسيدنا يوسف أن يعمر هذه المنطقة ويصل ماءها «ربما فى خطوة استباقية على السنين العجاف»، ثم عمرها فى مدة «ألف يوم» فصار اسمها «الفيوم»، أما «المقطم» فاسمه مأخوذ من القطم أى القطع، وذلك لأنه منقطع الشجر والنبات، ولماذا أصبح على هذه الحال؟ يقول ابن الزيات فى «الكواكب السيارة» إنه لما كانت الليلة التى كلم الله فيها موسى أوحى إلى الجبال أنى مكلم نبيا من أنبيائى على جبل منكم، وأوحى إليهم أن يجود كل واحد منهم لجبل الطور بشىء مما عليه، فجاد كل جبل بشىء ما عدا المقطم، فقد جاد بكل ما عليه من شجر ونبات وماء، فأوحى الله إليه لأعوضنَّك عما كان على ظهرك، لأجعلنَّ فى سفحك غراس الجنة، ربما كان إيمان المصريين السابقين بهذه الأسطورة ما جعلهم يدفنون موتاهم عند سفح هذا الجبل، فتكونت هناك أكبر مدافن القاهرة.
ورد كل ما سبق فى كتاب «الأساطير المتعلقة بمصر.. فى كتابات المؤرخين المسلمين»، والمؤلف هو الدكتور عمرو عبد العزيز منير، وأصل الكتاب رسالة حصل بها المؤلف على الدكتوراه من جامعة الزقازيق، وصادر عن دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية فى نحو 300 صفحة، تقييمه: جيد جدا، ومن أفضل مقاطعه ما نقله المؤلف عن ابن بطوطة قائلا «مصر هى أم البلاد بها ما شئت من عالم وجاهل، وجاد وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، تموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم على سعة مكانها وإمكانياتها».