لولا وعكة مرضية خفيفة لكان من المفترض أن أكون الآن مع بعض الأصدقاء والمهتمين بالعمل العام فى جولة فى بعض بلدان أوروبا. كان من المقدر أن نزور سويسرا وألمانيا وإنجلترا أيضاً. وكان الهدف الأساسى من الرحلة أن نخاطب الرأى العام فى هذه البلاد لنوضح لأصحاب الشأن أن ما حدث فى مصر بعد ثورة الثلاثين من يونيو من العام الماضى لم يكن انقلاباً عسكرياً، وإنما كان عملاً جماهيرياً رائعاً شارك فيه أكثر من ثلاثين مليون مصرى لكى يسقطوا تجربة فاشلة من التجارب التى تخلط بين الدين والدولة – بعبارة أخرى – تجربة من تجارب ما يسمى «الإسلام السياسى» الذى فشلت كل تجاربه فى العالم كله. نعم ساند الجيش المصرى هذه الملايين ولكن لم يساندها من أجل الاستيلاء على السلطة على الإطلاق. الذين يعرفون طبيعة الجيش المصرى والذين اهتموا بدراسة تاريخه يدرك أن الجيش المصرى ومنذ عقود قد تمتد إلى بداية حكم محمد على كان دائماً مؤسسة وطنية مصرية غير منحازة لحزب من الأحزاب أو فريق من الفرقاء.
عندما خرج الجيش فيما أطلق عليه «هوجة عرابى»، والتى كانت فى الحقيقة ثورة من ثورات جيش مصر الوطنى من أجل مطالبة الخديو آنذاك بإعادة «الدستور» الذى كان معمولاً به فى عهد إسماعيل، الذى كان فعلاً عهداً من عهود النهضة الحضارية فى مصر.. هكذا أعلن عرابى وهو على أبواب قصر عابدين. لم يطلب ميزة له أو للجيش وإنما طالب بعودة الدستور.
وفى مراحل متعاقبة من تاريخ جيش مصر العظيم أثبت هذا الجيش أنه مؤسسة وطنية مصرية ليس إلا.
كان الهدف من الرحلة الأخيرة التى منعنى مرضى من المشاركة فيها أن نشرح للرأى العام الأوروبى أن ما حدث فى 30 يونيو من العام الماضى كان ثورة شعبية بكل معانى الثورة الشعبية. لا يذكر التاريخ الحديث ثورة خرج فيها ثلاثون مليون مواطن أو يزيدون لإزالة طغيان معين ولكى تبدأ بعده تطورات طبيعية نحو الانتقال إلى الديمقراطية.
والانتقال من حكم الطغيان إلى الحكم الديمقراطى ليس أمراً سهلاً، وتجارب البلاد التى انتقلت من الحكم الشمولى أياً كانت سمته إلى الحكم الديمقراطى، أخذت وقتاً غير قصير. ما زلت أذكر كلاماً كنت أسمعه من بعض زعماء أوروبا الشرقية بعد تحلل الاتحاد السوفيتى ومحاولات تلك البلاد أن تبنى نوعاً من الديمقراطية.. كانوا يقولون: لو تصورتم أنكم ستبنون الديمقراطية فى عام أو عامين تكونون من الواهمين. إننا مع عدم تغلغل الطغيان الدينى احتجنا إلى سنوات وصلت فى بعض البلاد إلى عشر سنوات.
وتقديرى أننا سنصل قبل ذلك بإذن الله. إن قدْر الوعى الذى تتميز به الشعوب الآن مختلف تماماً عن وعيها فى عقود مضت.
المهم أننا كنا نريد أن نقول للرأى العام فى البلاد التى كنا نزمع زيارتها، والتى أظن أن الأصدقاء الذين كنت سأشرف بصحبتهم قالوه، بل قالوا أكثر منه- إننا لسنا فى ظل ثورة «حكم للعسكر» وإنما نحن نبنى نظاماً ديمقراطياً نرجو أن يكون سليماً.
كذلك كان أحد الأهداف الأساسية لهذه الزيارات أن نوضح لذوى الرأى فى تلك البلاد أن الإرهاب الذى يخرّب فى مصر ما استطاع من تخريب خلال السنوات الثلاث الماضية سينتقل بالضرورة إليها إذا ترك يعربد هنا على نحو ما كان يعربد.
كنا نريد أن نوضح لهؤلاء الإخوة الذين كان يفترض أن نقابلهم مدى الخطر الذى يهدد الحضارة الإنسانية إذا استطاع هؤلاء استرداد سيادتهم فى مصر لأنهم فى حقيقة تركيبهم أعداء للحضارة والعلم والتقدم.
وأحب أن أشير هنا إلى أن وزارة الخارجية المصرية وسفاراتنا فى البلاد التى كان يفترض أن نزورها حاولت قدر جهدها أن تنظم للمجموعات التى سافرت – والتى حرمت من مصاحبتها – لقاءات مع كثيرين من المسؤولين فى تلك البلاد.
علمت – والعهدة على الراوى – أنه كان منظماً لى لقاء مع «البوندستاج» فى ألمانيا، أى مع البرلمان الألمانى لكى توضَّح أمامهم هذه الحقائق.
ولابد من تقديم الشكر لوزير الخارجية المصرى د. نبيل فهمى ولأعضاء سفاراتنا فى هذه البلاد التى كنا سنقوم بزيارتها.
إن مصر الآن تعمل منظومة واحدة من أجل مصر. مصر عادت إلى مصر. وهذا أمر رائع لم يكن فى الحسبان منذ عدة عقود.
نعم مصر عادت إلى مصر.
وكان من المهم أيضاً أن نوضح للرأى العام فى تلك البلاد أن ما يشاع من تفرقة بين مسيحيين ومسلمين هو خزعبلات لا أصل لها.
لقد حضرت احتفال عيد القيامة المجيد منذ فترة وجيزة وشاهدت مصر كلها فى الكاتدرائية المرقسية وشاهدت كيف صفقت الجماهير الغفيرة التى كانت محتشدة ذلك اليوم العظيم، كيف صفقت بحماس رائع لكل الرموز التى ذكرها قداسة البابا تواضروس الثانى الخليفة العظيم للبابا شنوده الثالث، الذى أسمح لنفسى بأن أقول صديقى العزيز قداسة البابا شنودة، الذى مازلت أذكر يوم تنيحه وأنا واقف على المسرح أحتضنه والدموع تنهمر من عينى.
وأنا رجل مسلم يعرف تماماً أن الدين محبة، وأن الدين هو المعاملة، وأن الدين هو المواطنة.
الدين كل الدين وليس ديناً بعينه. المسيحية محبة والإسلام محبة لأن الدين بغير محبة لا يكون ديناً.
لقد استعدنا مصر إلى مصر ولن نفرط فيها أبداً بعد ذلك.
رعى الله مصر وحفظها من كل سوء.
والله المستعان.