يقال فى بعض نظريات علم الاجتماع السياسى إن البشر حين يتعايشون معًا وينتظمون فى مجتمع فإن انتظامهم هذا يقوم على ركيزتين أو «بنيتين» أساسيتين، أولاهما «تحتية» حيث النشاط المادى للناس عمومًا، وخصوصًا أنشطتهم الاقتصادية وما ينجم عنها من تقسيمات طبقية وعلاقات عمل وإنتاج ومصالح مادية مختلفة ومتعارضة.. إلخ.
وأما البنية الثانية فهى «فوقية» تمور فيها شتى الأفكار والعقائد ومختلف الإيمانات الروحية والدينية والانحيازات السياسية والاجتماعية، كما يقع فى قلب هذه «البنية» كل منتجات المجتمع الإبداعية والفنية ومنظومة الأخلاق والثقافة السائدة، فضلًا عن أن فى هذا المستوى الفوقى تستقر عادة جميع الشرعيات بما فيها القوة المعنوية لمؤسسات الدولة والقانون إضافة ـ طبعاـ إلى شكل الحكم ونوعه.
هذا التقسيم هو، بطبيعة الحال، افتراضى ونظرى غرضه تسهيل الدراسة والبحث فى أحوال المجتمعات، بمعنى أنه فى الواقع لا يوجد هذا الفصام والانفصال الذى قد يوحى به الحديث عن «بنيتين» مختلفتين فى طبيعتهما، بل إن نظرية «البنيتين» نفسها هى أساسًا تقوم على الإقرار بوجود علاقة اتصال قوية ووثيقة جدًّا وجدل وتفاعل دائمين ومستمرين بين ما يجرى «تحت» وما يحدث «فوق»، حتى إن الخلاف التاريخى الأشهر والعتيد فى أوساط أصحاب الأيديولوجيات ونظريات التغيير السياسى والاجتماعى كان وما زال يدور حول إجابة سؤال من أين يبدأ تراكم أفعال التحول والتغيير فى المجتمع ؟ من بنيته وأوضاعه التحتية أم الفوقية؟ وفى بلادنا الآن فريق من الناس يبدون (بدافع النفاق غالبًا) انحيازًا لإجابة معينة عن هذا السؤال تحرض على اليأس والقعود وتبرر أو تعفى النظم والحكام من المسؤولية عن سوء أحوال شعوبها وبؤس وتأخر أوطانها، إذ تجد هؤلاء ينسبون إلى النبى محمد (ص) حديثًا ضعيفًا (بإجماع العلماء) يقول منطوقه.
«كما تكُونُوا يولَّى عليكم»!! يعنى باختصار، مفيش فايدة فما دامت أوضاعنا زفتًا وهبابًا فإن حكامنا سيأتون زفتًا وهبابًا أيضا، ولن يفعلوا شيئًا لكى نتنيل نتقدم أو نتطور، وإنما فقط سيكتفون بالتمتع بالمريسة والسلطنة والعيشة الهنية الطرية فى قصور الحكم، ثم كان الله بالسر عليما.. وهكذا إلى الأبد.
وبعد فإننى عزيزى القارئ أعرف أن صدرك ربما ضاق بالكلام السابق كله، وأقبل منك أن تنعته وتنعت العبد لله بالحزلقة النظرية الفارغة، لكنى أستأذنك فى بعض الصبر حتى نجرب معًا فى السطور الباقية تطبيق نظرية «البنيتين» على ما نحن فيه وما نكابده فى مجتمعنا الراهن.. يعنى مثلًا، إذا كانت الأوضاع القائمة فى «بنيتنا» التحتية (اقتصادًا واجتماعًا) هى كما ترى حضرتك ما زالت سيئة وبائسة وظالمة، إذ لم نبدأ بعد المشى على طريق الألف ميل لبناء الوطن الناهض الحر المتقدم الذى من أجله قمنا بثورتين فى أقل من ثلاث سنوات.. إذا كان ذلك «تحت» كذلك، فهل غريب يا عزيزى أن يكون حال الوضع «فوق»، أن «عقيدة السبوبة» وشريعة النصب والنفاق والكذب (حتى على المولى تعالى) هى السائدة والمتحكمة لدرجة اختراع تجارة رائجة لم يسبقنا إليها أحد فى هذه الدنيا الواسعة، هى التجارة و«السمسرة» فى الدين وتفصيل فتاواه على المقاس وتحويله لمجرد «بضاعة مضروبة» تباع على الأرصفة، تسمم عقول الناس وتسطح أفهامهم وتمسخ أرواحهم وتعلى من شأن «صور وديكور» التدين على حساب جوهر الدين الحق وقيمه السامية التى تأبى العنف والجلافة والابتذال وفقدان التسامح وتخريب الذوق وتمجيد القبح!
هل غريب، وحالتنا الراهنة «تحت» ما زالت زى ما انت شايف كده، أنْ تكون حالتنا «فوق» على النحو «المطين المنيل» الذى تشى به كل تلك الملوثات والأوساخ السمعية والبصرية التى تحاصرنا من كل اتجاه وتغرقنا فى شتى صنوف التفاهة والجهالة والبذاءة والسماجة؟!
طيب، ما مناسبة كل هذا الكلام؟.. أقول لك بكرة، إن شاء الله.