فى منتصف السبعينيات كان التنافس فى الشارع على أشده بين محمود ياسين ونور الشريف، محمود أكثر وسامةً وفتى أحلام البنات، لم يكن محمود فقط مجرد شاب موهوب وسيم الملامح، ولكن كان صوته يشكل عامل جذب نسائى، حتى إن بعض منتقديه كان يعتبره مجرد ظاهرة صوتية، وهذا ما دفعه إلى الرد العملى بفيلم «الأخرس».
نور الشريف كان يشكل حالة أخرى، فهو لا ينافس على لقب فتى الأحلام ولا يجلس على عرش الإيرادات، ولكنه نجم الأدوار الصعبة، وهكذا ظل على مدى يقترب من خمسة عقود من الزمان، وهو داخل دائرة النجومية لم يعتلِ أبدًا كرسىَّ الملك، ولكنه على المقابل لم يغادر أبدًا الدائرة.
غدًا يكمل نور الشريف شاطئ الثامنة والستين من عمره ليواصل العطاء متطلعًا لشمس الأيام القادمة، فهو دائمًا يعقد حالة صُلح مع الزمن.
أغلب نجومنا تلمح لديهم تلك الرعونة والتطرف حبًّا أو كرهًا بينما نور فى القسط الوافر من اختياراته وآرائه تكتشف أن وراءه عقلًا يحدد له البوصلة، يخطئ ربما، وهذا بالطبع وارد إلا أن المؤكد أنه قادر دائما على النهوض والصمود مجددًا.
عندما يمر الزمن ونبدأ فى تقييم النجوم الذين أضاؤوا حياتنا فى الخمسين عامًا الأخيرة ونبحث عمّن هو صاحب الرصيد الفنى الباقى؟! لو سألتمونى أقول لكم إنهما اثنان يحتلان المركز الأول، أحمد زكى ونور الشريف.. كل منهما له اختيارات سينمائية وإبداعات خاصة تتحدى الأيام، الفارق بين أحمد ونور أن أحمد يختار الدور ويؤديه بمشاعره، بينما نور مزيج من العقل والمشاعر، وفى أحيان كثيرة يترك لعقله الرأى الفاصل والنهائى. يشعرنى أحمد أن الدور يبدو وكأنه هو الذى يبحث عن أحمد، يتلبسه ويأمره بالحركة والكلمة واللمحة، بينما نور هو الذى يبحث عن الدور، ويضع بعقلانية ملامحه وحركاته وسكناته.
ما سيبقى مع الزمن للنجمين من أعمال فنية هو الأكثر عددًا، رصيد نور ربما يصل إلى ضعف ما قدمه أحمد زكى، لأن «نور» دائمًا ما يترك مساحة للعقل الذى يقول له إن هناك وجهًا آخر للسينما، وهو الأعمال التجارية، والفنان بين الحين والآخر لا بأس من أن يقدم لجمهوره المذاقين معًا.
نور يُمسك هذا المزيج المتوازن من الانضباط والمرونة، فهو دائمًا يطرح اسمه على الخريطة الفنية ويعرف بالضبط كم يساوى كأجر وكمساحة درامية وقيمة أدبية.. يحدد كل شىء بلا تعالٍ مصنوع ولا تواضع كاذب. يدرك دهاليز توزيع الأفلام فى الداخل والخارج ويؤمن أن كل زمن له إيقاع وله نجوم.
يعرف بالضبط متى يقول لا.. أو نعم.. متى يُقبل أو يُحجم.. متى يظهر على الشاشة الصغيرة أو يكتفى بهذا القدر، متى يقف على خشبة المسرح أو خلف ميكروفون الإذاعة أو يصمت وينتظر.. ومتى يعتذر إلى الناس.. نعم يعتذر.. حيث إنه لم يجد أى حرج فى أن يعلن أكثر من مرة أنه أخفق فى الاختيار فيريح ويستريح، ولا يبدد طاقته فى قضية خاسرة.
نور هو واحد من القلائل أو ربما الوحيد الذى حسم منذ زمن بعيد مأزقًا يواجه كل النجوم، وكان السبب وراء اعتزال بعضهم، وهو مكانة اسم النجم على الأفيش والتترات، وأيضًا ترتيب النجوم.. الكبار يريدون أن تتصدر أسماؤهم الأفيشات والجدد يطالبون بأحقيتهم فى الصدارة، ما دام شباك التذاكر يشهد لصالحهم، ولم يصمت نور وطالب بتطبيق قانون صارم قائلا «اللى أجره أكبر منى يسبقنى».
قال لى فى حوار خاص إنه دائما يحتفظ بورقة يكتب فيها ملاحظات على بعض الشخصيات التى يقابلها.. يحتفظ بتفاصيل يلتقطها من الحياة ليعيدها أمام الكاميرا.. وأخذ نور هذه النصيحة من رشدى أباظة، فهو يتعامل مع الشخصية الدرامية بدرجة ملحوظة من الاحتراف.
التقيت نور قبل شهرين فى مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية، تبادلنا السلام العابر على مائدة الإفطار ولم ألمح تلك الحالة من السخونة فى ملامحه ومشاعره التى تعودت عليها، ولم أسأله ولكنه بعد أقل من الساعة كان موعدنا مع ندوة لتكريمه على عطائه الفنى، وفجأة وجدت أمامى نور الشريف، وقد عاد شابًّا حضورًا وسخونةً وعقلًا يقظًا، ليظل دائما نور يتطلع إلى إشراقة نور الغد، التى تمنح «نور» «نورًا على نور»!!