سبق أن سألت هنا: فى الثورات عمومًا.. مَن يقتل مَن؟!
طبعًا نحن نعرف، أو بالأحرى يجب أن نعرف أن الثورات عمومًا حوادث استثنائية فى حيوات المجتمعات البشرية، بل ربما نستطيع القول بمنتهى راحة الضمير أن الثورة فعل اضطرارى محض يلجأ إليه الناس عندما تنسد أمامهم كل سبل التطوّر الطبيعى الهادئ، وحينما يبلغ اليأس والقنوط أقصى المدى ويبدو الأمل فى تغيير وإصلاح أوضاع تعفّنت بالظلم والبؤس والفساد، منعدمًا أو مستحيلًا.
ولأن الثورات والهبّات الشعبية العارمة هى دائمًا وأبدًا خروج عاتى عاصف على كل ما هو سائد ومستقر ومألوف بما فى ذلك الأصول والقواعد والنظم كافة، كما أن حرارتها وسخونتها اللاهبة تتصادم مع التفكير العقلانى البارد وتتجاوزه لدرجة انتهاك المنطق فى أحيان كثيرة..
لهذا فالثورة بطبيعتها الفوارة هذه وبسبب كونها حزمة أفعال صاخبة أغلبها تلقائى ومن نوع يستحيل تقطيره وتنظيمه والسيطرة على مفاعيله، فهى من أكثر الأنشطة الإنسانية قابلية للخطف والانحراف بها عن أهدافها وغاياتها وأسباب انطلاقها.
يعنى إذن وباختصار، وجود الثورة فى منطقة الاستثناء والتلقائية (ولا أقول العشوائية) يجعلها ساحة نموذجية وواسعة جدًّا لاختلاط الحابل بالنابل والطيبين بالأشرار، لذلك فقد كنت (وما زلت) أضحك وأشفق كثيرًا على حفنة الأخيار السذّج الذين بقوا لآخر لحظة يتلمّسون الأعذار لجماعة «الشر السرية» الإخوانية ويمدّون لها حبال الصبر وهم يرونها «تنشل» علنًا ثورة 25 يناير وتجهضها وتسحقها بقسوة وتجردها تمامًا من أهدافها وغاياتها..
هؤلاء الصابرون الغافلون عن جرائم الإخوان ظلّوا يسوغون موقفهم بحجة غلبانة خجولة ملخّصها: معلهش أصلهم كانوا معانا فى ميدان التحرير!!
طيب، هل لكل هذا الكلام علاقة بالسؤال الذى بدأت به: مَن يقتل مَن فى الثورات؟! نعم، وهناك ألف دليل فى الواقع الذى عايشناه وكابدناه عامين ونصف العام حتى اضطررنا -للمرة الثانية- إلى معاودة الخروج يوم الثلاثين من يونيو الماضى فى ثورة عارمة جديدة، لكى نستعيد أهدافنا الثورية النبيلة من يد الفاشيين النشالين الذين أشاعوا العنف والقتل وحوَّلوا الإجرام والإرهاب إلى «ثقافة ثورية» بالكذب والزور والبهتان، فلما سقطوا واندحروا تحت أقدام عشرات الملايين من الشعب، كان ردّهم الوحيد هو المزيد من الإجرام والمزيد من العنف والدم والإرهاب والبلطجة والتخريب.
هنا أعود إلى حكاية ذات مغذى سبق أن حكيتها نقلًا عن مؤرّخ الثورة الفرنسية الأشهر والأعظم «جول ميشليه»، عندما كان يصف فى موسوعته التاريخية ذائعة الصيت جزءًا من مشهد اقتحام ثوار باريس سجن الباستيل الرهيب يوم 14 يوليو 1789 (صار يوم العيد الوطنى لفرنسا)، قائلًا:
.. بعدما يأس القومندان «دى لونى» قائد الحرس السويسرى لقلعة الباستيل من قدرة قواته على صد الثائرين وهزيمتهم، طلب من قادة الثوار أن يسمحوا له بالاستسلام بشرط الحفاظ على حياته، فوعده رجل يُدعى «هولان» بالأمان.. إلا أن الرجل وجد صعوبة بالغة فى الوفاء بوعده، فمَن ذا الذى يستطيع أن يكبح روح الانتقام عند جماهير شحنت عبر قرون طويلة بالقهر والظلم..
كانت الجماهير الثائرة غاضبة وعمياء وسكرانة بالنصر، ومع ذلك لم يقتلوا فى فناء الباستيل سوى رجل واحد من الحرس، لكن عندما تحرّك الثوار من محيط السجن متجهين إلى ميدان «الجريف» انضمت إليهم جماعات من الدهماء والغوغاء لم تشترك فى معركة اقتحام السجن الرهيب أصلًا وكانت تكتفى بالفُرجة وسماع أخبار المعركة فحسب، لكن هؤلاء عز عليهم أن لا يأخذوا نصيبًا من غنائم انتصار لم يسهموا فيه بأى جهد ولا تضحية، فقرروا أن يكون إسهامهم الوحيد هو جريمة قتل الأسرى العزّل، وبدؤوا بقتل واحد فى شارع تورنيل، ثم ثنّوا بأسير آخر على رصيف نهر السين..
وبقى القومندان «دى لونى» فى حماية «هولان» الذى استخدم ضخامته وقوته البدنية الهائلة فى صد قبضات الهائجين عن أسيره.. وظل الرجل يتلقّى الضربات ويستبسل فى الدفاع عن القومندان الأسير حتى سقط أخيرًا فى دوامة كتلة بشرية مهولة عصرته وضغطت عليه بجنون، ففقد الرجل توازنه لحظة، وعندما عاد ليصلب طوله من جديد رأى رأس «دى لونى» معلّقًا فى طرف حربة..