خلاص استتب الأمن وعاد الهدوء لأركان المحروسة، ولم نعد نسمح صرخات الأمهات تشق سكون الليل وتعلن عن سقوط الجدع فى كمين برصاص شريعة القتل ويتم الأطفال. ولا جنازة ورا جنازة تودع شهيداً لمثواه الأخير.
خلاص اطمأن المستثمر العربى قبل الأجنبى أن قنبلة لن تنفجر من لوحة إعلانات ولا صباع ديناميت من داخل ملقف زبالة ولن يصادف ملثمين بالرشاشات ترش الأرض بالدم ولن تفتك به سيارة مفخخة. خلاص عاد المستثمر يمارس نشاطه ويعوض أيام القحط حين كان المسجلون خطراً يسممون هواء مصر. خلاص. ما عاد التعليم مشكلة، لقد احتشدت عقول البلد حول دستور للتعليم لا يتغير بذهاب معالى الوزير ومجىء آخر. صارت البطالة صفراً فما عادت هناك أياد نجسة تسرق وتخطف وتزهق أرواحاً. خلاص ما عادت فى مصر أمية فقد تولى الجيش المهمة واعتبرها هدفاً وتنظيماً حاذقاً أمكن جمع الأميين فى معسكرات، وصوب الجنود بنادقهم على الأمية فأسقطوها مترنحة.
ما عاد فى البلد أمى يتغطى بلحاف الجهل، سبقنا تجربة كاسترو فى إعلان الحرب على الأمية تحت جذوع الشجر. خلاص، احتل التفكير العلمى رأس المسؤول المصرى وسادت القيم العلمية، ونذر زويل نفسه للعلم وتصالح مع جامعة النيل وأسدل الستار على الجهل والخرافة والعبثية. خلاص توصلنا لحلول مع إثيوبيا الأفريقية لحصة مصر من المياه، بحيث لا يعطش نبات أو حيوان أو إنسان على أرض الكنانة. خلاص، انتبه المجتمع لخطورة الفحم فأهدى القضية لمجلس علماء يقول كلمته. خلاص، انتظم السوق بالضبط والربط والحزم والحسم والعقاب وشهد الناس مصرع الغلاء. أصبحت القرية المصرية مصدر الخير وعاد الفلاح لأرضه يزرعها ويحصدها فى المواسم، وأقلع عن السهر أمام التليفزيون يرى فيلماً ورا فيلم ويشد أنفاس الجوزة. خلاص، لم تسجل الشرطة حالة تحرش واحدة فقد تاب الشباب وعاد إلى رشده واشتغل ولم يعد لديه وقت للسرمحة. وأخذ البيت المصرى دوره المنوط به وكبر فى المدرسة حجم التربية بعد اعوجاج طرأ على سلوك الأولاد من حريات غير مسؤولة إلى عدم خوف طايش إلى تطاول على الكبار، وكلها من مخلفات ثورة يناير، حيث لم نفهم معنى الثورة وتخيلنا أنها «جعجعة نشطاء». خلاص، اختفت المظاهرات الفئوية يوم دخلت العدالة الاجتماعية حياتنا خلاص. استراحت البلد من القرف والنكد والشأم. لا صار المرور مشكلة ولا انقطاع النور مشكلة ولا الطلاق المبكر مشكلة ولا العنوسة مشكلة ولا غابت الجماهير عن الملاعب فى المباريات. وانتهت مسلسلات المحاكمات وامتلأت السجون بمن أدينوا. صار لدينا مجتمع بلا مشاكل كما السويد ولدينا صحة كما أبطال الأثقال. فماذا نفعل وعندنا وقت؟!
ومن الأمانة أن أذكر أن السطور أعلاه هى «أخبار غير صحيحة» على غرار المربع الصغير فى الصفحة الأخيرة من «المصرى اليوم» «خبر غير صحيح». فمازالت البلد «مثقلة بالهموم» وتحتاج إلى كل دقيقة لحصار مشاكلنا المزمنة والطارئة. فنحن نعانى من الاستغراق فى الماضى ونزف الحاضر وتهويمات المستقبل. نحن بوضوح شمس استوائية «نسىء» استثمار الوقت. لقد تخصصنا فى عملية «هدر» الوقت!
مناقشات حامية الوطيس تنفر فيها عروق رقاب المتكلمين حول «فيلم» لا يهمنى من أبطاله ومن مخرجه ومن منتجه ومن وافق عليه ومن «سرب» عرضه. فهناك أفلام نتاج زمان ردئ ودخول متدنية. وعقول فارغة وغرائز حاضرة وعشوائيات كلها موبقات. هناك حالة «إمساك» فكرى وجود فى ملكة تفكير لا تعمل فى الاتجاه الصحيح. وما جرى «احتكرته» القاهرة- كالعادة- لأن الصعيد يشكو الجدب، والقاهرة أعصابها ملتهبة بفعل حوادث صيد رجال الأمن كالعصافير برصاص الغدر. وفى مدينة مثل فرانكفورت فى ألمانيا عدد سكانها «650 ألف نسمة» فيها قاعتا أوبرا و65 جاليرى يقول الشارع كلمته فى أى عرض. فيلماً أو مسرحية أو حتى كتاب. لماذا؟ لأن هناك حاكماً طاغياً لا يرحم ولا يجامل أو يهادن أو ينافق أو يغازل. اسمه «الذوق العام». إنه يرفض فينسحب المرفوض دون الحاجة إلى سلطة وهدر وقت وثرثرة باسم حرية الإبداع.
فالإبداع- فى تعريف- للدكتور فؤاد زكريا «انتصار الفنان على ذاته واكتشاف ما هو مخبوء داخل الفنان. بتهوفن قاد أوركسترا وهو فاقد حاسة السمع. والإبداع- عند علم النفس الإبداعى لمصطفى سويف هو «التفاف المجتمع حول موهبة فرضت نفسها واعترف بها مثل أم كلثوم» والإبداع عند - الإخوان- مثلاً، هو «دك كل ما هو مشرق وضربه حتى الموت». والإبداع عند- الأزهر- مثلا هو «الانتصار لقيم الدين والخير». والإبداع عند- د. زكى نجيب محمود- هو «ما أنتجته اليد صانعة الحضارة».
ولأن الأمور نسبية فى هذه الدنيا، فلا يمكن «استعارة» تجارب الآخرين وتعميمها. ففى فيلم فرنسى- لا أذكر اسمه- يظهر رحم امرأة من تحت ملابسها فى وجه المحقق، واستساغ الفرنسيون الفيلم. وفى كندا رأيت فيلم «الصديقتان» عن علاقة بين رسامة وموسيقية دون إظهار للأعضاء، واستساغ الكنديون الفيلم. وفى كيب تاون مقاه للشواذ محرم دخولها على الأسوياء. إن لكل مجتمع لغته ومفرداته وطقوسه وعاداته، وربما كان الجنس واحداً، ولكن الاختلاف فى الأوعية. والحقيقة أن الفيلم المصرى موضوع الثرثرة ليس عن عالمة الذرة سميرة موسى ولا هو جزء جديد عن الإخوان فى رؤية ناضجة لوحيد حامد. ولاهو هو فيلم من تجليات داوود عبدالسيد وتأملاته. إنه فيلم لطفل برىء وسيدة منحنيات، والحكومة حين منعته ساهمت فى شهرته بدعاية مجانية. وليست سينما الوحل جديدة. لقد عاشتها مصر فى زمن أفلام للمقاولات. حتى الهلس كان مقنناً. ورغم أن دور الطفل فى الفيلم «تحقير» للنظرية التربوية لما يجب أن يكون عليه أطفالنا، فالمسألة صارت «سداح مداح». المحموقين يخافون من منع أفلام سياسية قادمة وكأن «رقابة المصنفات على باب خمسة والجو معفر». والمدافعون عن «حرية الِبدَع» كم عددهم؟ ميه. ميتين. ألف. ألفين؟ فى بلد الـ: 90 مليون؟! هل وجدنا كل الحلول لمشاكلنا بحيث تتنافس القنوات على المنتج والطفل البطل؟ ببساطة، المنتج راق له الموضوع ويتوقع- بمهارة- العائد. والطفل البطل فرحان بالشهرة المبكرة جداً ووالدته اعتبرت ابنها دق على بابه الحظ وجاءته الشهرة من أوسع الأبواب! الطفل صار «نمطاً» يقلد. ردود الفعل لفيلم «الطفل وسيدة المنحنيات» كانت متباينة. رئاسة الوزارة مع القيم. الأزهر مع القيم. العقلاء مع القيم. الأهل مع القيم. أعمدة الصحف مع القيم. كان سلامة موسى يحذرنا من عدم الانحراف فى المآسى الاجتماعية حتى لا تصبح منهجاً للتفكير والسلوك فإذا حدث نقاش جارف حول الانتحار مثلاً، تشبع الجو العام بهذا السلوك. وكان د. سيد عويس ينبهنا أن إصلاحيات الأحداث ربما كانت «عجينة إجرام» وحادثة طفلة بورسعيد التى اغتصبها «طفلان!» وألقيا بها ليس ببعيد لكى نسند بطولة لطفل فى مواجهة سيدة منحنيات يدور فى رأسه سيناريوهات ونقدم «العرى» تحت دعوى التخيل؟! مسخرة.
إن كل مشكلة تعرضت لها فى بداية هذا المقال تحتاج جهداً وزمناً.. وياميت خسارة على شعب «ييجى فى الهايفة ويتصدر». من المؤكد أن هناك «خواء» والناس تعودوا كل ليلة على حكاية شكل. ولو ظهرت سيدة المنحنيات على قناة ما لكى تتكلم لا فض فوها، فسوف تقبض مبلغاً «يحل مشكلة كادر الأطباء المعطل»، ولو عاد الفيلم للعرض، فسوف يستعان بالأمن المركزى لفض «الطوابير»، ناهيك عن إعلانات القناة التى سوف تحطم الدقائق القياسية. وللعلم، أنا لست ناقداً متخصصاً فى السينما ولا ادعيت ذلك ولا علاقة لى بأصحاب الفيلم ولا أعرفهم. ما أنا إلا «متذوق لفن السينما»، أما الذى لا أمل الفرجة على أفلام: «الاختيار، القاهرة 30، دعاء الكروان، المستحيل، إمبراطورية ميم، رسائل البحر، المنسى، السمان والخريف، زوجة رجل مهم، الخيط الرفيع، غزل البنات، فجر يوم جديد، المذنبون، الراقصة والسياسى، حبيبى دائماً». هذه أفلام مصرية بقريحة مصرية ومواهب إبداع مصرية، وإن ما جرى- يا سادة هو «جنازة حارة والميت فيلم».
إضافات
1- يتغذى الحب على «التنازلات الصغيرة» والعناد يصيبه بهبوط حاد فى القلب.
2- قال لها فى صلف: تعالى. فتعالت عليه.
3- إهانة الرؤساء السابقين أو المحتملين هو «قلة تربية» أرفض إهانة مبارك وأرفض إهانة حمدين صباحى.
4- الذى صفق لاسم السيسى فى الكاتدرائية ليسوا مسيحيين بقدر ما هم «مصريون» أولاً.
5- تأجلت القضية الفلانية إلى ما شاء الله العاشرة صباحاً.
6- «تراكم الخبرات» هى فيتامينات المجتمعات وقوة مناعتها، إلا فى مصر.
7- كنت أتصور أن تراث أنيس منصور وأوراقه الشخصية وقلمه تتهافت عليه كلية الآداب جامعة القاهرة، ولكن الفتى مات ولن يكتب فى عموده «مواقف» عن الجحود.
8- دكتور حازم عبدالعظيم.