منذ سنوات عديدة، كتب المبدع إحسان عبد القدوس قصته «الراقصة والسياسى».. القصة تتحدَّث عن صراع نشأ، بين راقصة وسياسى.. السياسى كان يتصوَّر فى البداية أنه الأقوى، لأنه السياسى، الذى يملك كل السلطات.. ولكنه فى الوقت ذاته كان يجهل الفارق الجوهرى، بين أن تفعل ما تستطيع أن تفعله، أو ما ينبغى أن تفعله.. لم يكن يدرك الفارق، لأنه اغتر بقوته، التى أغشت بصره، وأماتت ضميره، وجعلته يتصوَّر أنه وحده، من دون البشر أجمعين، غير قابل للهزيمة.. لم يكن يدرك أن البلطجى يفعل ما يستطيع أن يفعله.. لأنه بلطجى.. مغتر بقوته، لا أخلاق عنده أو موانع.. يستغل مقدرته على العنف فى الإساءة إلى كل من حوله، وقمع كل من يحاول مجرَّد معارضته.. ولأنه بلطجى فهو يمنح نفسه الحق فى الإساءة إلى كل خلق الله، ويجنّ جنونه إذا ما أساء إليه شخص واحد.. كل هذا لأنه لم يدرك الفارق الكبير، بين ما يستطيع أن يفعله، وما ينبغى أن يفعله.. الإنسان المحترم الشريف يعرف الفارق، ولهذا فهناك كثير مما يستطيع أن يفعله، ولكنه لا يفعله، لأنه لا ينبغى أن يفعله.. ولهذا فهو إنسان محترم، وهو لا يفعله أيضا؛ لأنه يدرك أن المعز المذل جلّ جلاله، يمهل ولا يهمل، ويُؤتى الحذِر دوما من مكمنه، فالمغتر بماله يمهله، ويزيده منه، ثم عندما لا يرتدع عن غيّه، يسلبه كل ماله، أو يصيبه بما لا تكفى أموال الدنيا كلها للخلاص منه... ولو أنه يغتر بقوته، يسلبه المنتقم الجبار إياها، ويجعل أضعف الضعفاء يهينه ويكسره، وهو غير قادر على الرد.. وفى رواية الأديب إحسان عبد القدوس، التى تحوَّلت إلى فيلم، بطولة نبيلة عبيد، والراحل صلاح قابيل.. قرَّر السياسى خوض الحرب مع الراقصة.. هو كان سياسيا، لديه كثير مما يمكن أن يخسره، وهى مجرد راقصة، ليس لديها ما تخسره.. استغل السياسى وضعه ومنصبه واتصالاته، فسجنها، وهدَّدها، وتوعدها.. فعل كل ما يمكن أن يهزم به خصومه السياسيين.. ولكنها راقصة... ولأن الإنسان لا يختار للقتال إلا من فى مستواه، فقتال السياسى مع الراقصة كان نوعا من الفساد السياسى والاجتماعى فى أقصى وأحقر صوره، لأنه وضع رأسه برأس راقصة.. فهذا كان يعنى أحد أمرين.. إما أن الراقصة قد عظمت، حتى صارت فى مستوى السياسى، وإما أن السياسى قد انحط إلى مستوى راقصة.. ومهما كانت النتيجة، سيخسر السياسى، كما قالت القصة وقال الفيلم.. وكما قالت الراقصة للسياسى فى الفيلم «طلعت نزلت، أنا حتة رقاصة»... السياسى اعتبرها مسألة كرامة، ومدير مكتبه ساعده على هذا الإحساس، ولكن الراقصة تواصل قتالها دوما، مهما تعرَّضت للإيذاء، الذى اعتادته فى مسار حياتها.. أما السياسى، فستجعل منه الراقصة مسخة، ولو استمرت القصة، لشاهدنا السياسى فى نهايتها وقد صار أضحوكة الشارع، وكل طفل يراه يسخر منه، أو يضحك على ما قيل عنه.. كل هذا لأنه حط من قدره، وحارب راقصة.. ويا لها من قصة رائعة لمبدع رأى بعينه كل العصور.. رأى الراقصة.. والسياسى.
نبيل فاروق يكتب: الراقصة والسياسى..
مقالات -
د. نبيل فاروق