أمضيت فى الجامعة (جامعة القاهرة) سنوات النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى، ووقتها كان اليسار المصرى بتنوعاته المختلفة، اشتراكيين وقوميين، صاحب النفوذ الأكبر والوجود الكاسح فى صفوف الحركة الطلابية، التى بدورها كانت الإطار شبه الوحيد لقوى المعارضة الناشطة ضد أنور السادات المندفع آنذاك نحو الانخراط فى مذلة للحلف الأمريكى الإسرائيلى على حساب مصالح الوطن والأمة، وفى الداخل كان الرجل مندفعا بالقوة والحماس نفسيهما فى تأسيس نظام اقتصادى واجتماعى ظالم ومشوه وغارق فى الانحطاط، انحاز وخلق بسرعة طبقة من الأغنياء الجدد لها ملامح شديدة القبح وسمات ممعنة فى التخلف والطفيلية، إذ لا تحفل أو تهتم سوى بمراكمة الثروة الحرام ونزحها بأى وسيلة وعبر أى طريق.
هذان التوجهان التخريبيان فى الداخل والخارج، هما الأساس الصلب الذى بنى عليه حسنى مبارك صرح نظامه الفاسد.. فأين كانت قوى ما يسمى الآن جماعات «الإسلام السياسى»، وماذا كان موقفها من تلك السياسات الساداتية التى حفرت مجرى تدفقت فيه بعد ذلك كل الشرور والكوارث الاجتماعية والوطنية؟!
أظن أن الإجابة معروفة وموثقة ومستقرة فى صفحات تاريخنا السياسى المعاصر، والعبد لله شخصيا واحد من آلاف شهود العيان على الكيفية التى جرى بها «التصنيع الأمنى» لظاهرة الجماعات التى ألبسوها رداء الدين الحنيف وأطلقوها فى الجامعات لتؤدى وظيفة واحدة هى المشاركة (مع فرق المباحث) فى حصار وقمع الحركة الطلابية المعارضة لنظام أنور السادات، لكن الأمانة تقتضى الاعتراف بأن الطلبة أعضاء هذه الجماعات كانوا أحيانا يمارسون أنشطة أخرى، مثل التظاهر لنصرة الجالية المسلمة فى الفلبين، ودعم «الجهاد» الأمريكى ضد الاتحاد السوفييتى السابق فى أفغانستان.. أما خبر الاحتلال الصهيونى لفلسطين فلم يكن آنذاك قد وصل بعد إلى مسامع هؤلاء الشباب!!
ولا أستطيع أن أنسى مشاهد بائسة ومحزنة رأيتها فى هذا الزمن البعيد وما زالت محفورة فى ذاكرتى، يعنى مثلا فى مطلع شتاء عام 1976 كان مئات من طلاب جامعة القاهرة الأعضاء فى ناديى «الفكر الناصرى» و«الفكر الاشتراكى التقدمى» ينظمون معا فاعليات وأنشطة مشتركة استمرت أسبوعا أطلقنا عليه اسم «أسبوع الجامعة والمجتمع»، وتضمن برنامجه عددا من الندوات، بالإضافة إلى معرض مجلات حائط ضخم أقيم فى الباحة الرئيسية للجامعة، وقد تناولت الندوات والمواد المكتوبة فى المجلات الحائطية كل القضايا الاجتماعية والسياسية الخطيرة التى كانت مثارة آنذاك ابتداء من سياسة الانفتاح الاقتصادى الكارثية وانتهاء بالعلاقات الحميمة مع أمريكا وإسرائيل التى كان السادات قد بدأ ينسجها باضطراد وإصرار منذ نهاية حرب أكتوبر 1973.
فى أحد أيام هذا الأسبوع الذى انتهى بمسيرة شهيرة انطلقت من الجامعة إلى مجلس الشعب (مظاهرة 26 نوفمبر) حاملة مطالب متنوعة، منها ما يخص الديمقراطية أو ما يتعلق بالأوضاع الاجتماعية الظالمة، فضلا عن مطالب وطنية أخرى لها علاقة بالموقف المخزى للنظام من الصراع العربى الصهيونى.. فى هذا اليوم وبينما كان مئات الطلاب محتشدين ومنهمكين فى حلقات نقاشية جادة وعفوية التأمت بجوار معرض مجلات الحائط، فوجئنا ببضع عشرات من الطلبة الملتحين يخرجون علينا من مبنى إدارة الجامعة وكان بعضهم مسلح بعصى وجنازير حديدية، ويقودهم بعض ضباط وأفراد من أمن الدولة، وبدا واضحا أن الهدف هو الاعتداء على رواد المعرض وفض حلقات النقاش بالقوة وتمزيق المجلات، لكن أعداد المحتشدين كانت كبيرة بدرجة لا تسمح بتنفيذ الخطة على النحو الذى صممت به (عرفنا بعد ذلك أنها وضعت ورسمت فى مكتب رئيس الجامعة وقتها الدكتور صوفى أبو طالب)، لذلك أصدر الضباط بسرعة أوامرهم (بالإشارة) للرهط المسلح أن يتراجع ويتقدم فقط العُزّل منهم لاقتحام حلقات النقاش ومحاولة إفسادها بطريقة واحدة بدت لنا مضحكة جدا، إذ قام كل طالب ملتح برفع عقيرته صارخا هاتفا فى زملائه بكلمة «كفار.. كفار»!!
طيب، ماذا كانت نهاية هذه الحكاية؟! فطسنا من الضحك، وما زلنا نضحك.. لكنه الضحك الأمَرُّ من البكاء.