يرفض الشاعر مأمون الشناوى أن يجرى أى تغيير على كلمات الأغنية وتصر أم كلثوم على تعديل بضع كلمات، قائلا لها إنه مثل الفنان التشكيلى انتهى من لوحة ولا يمكن أن يضيف لونًا أو ظلًّا، بينما أم كلثوم تعتبر أن الأغنية عمل جماعى، ومن حقها أن تتدخل فيذهب بالأغنية إلى صديقه فريد الأطرش الذى يبعد منزله بأقل من 100 متر عن فيلا أم كلثوم فيصبح الربيع لا يشعر به الناس إلا بعد أن يشدو فريد برائعة مأمون.
كان محمد الموجى ومنير مراد هما الملحنين الأقرب إلى سعاد حسنى، وفجأة تتوقف إشارة المرور ويستمع كمال الطويل إلى صوت يستحوذ عليه من فرط رقته يقول له «إمتى حغنّى من ألحانك يا أستاذ» ينظر فيكتشف أنها سعاد حسنى.
قال لى الأستاذ كمال إنه مع سعاد لا يلحن فقط الكلمات، ولكن الصوت يلهمه النغمة ويبدأ بـ«يا واد يا تقيل» فى «خلّى بالك من زوزو» وتتعدد الألحان وتأتى «الدنيا ربيع» فى «أميرة حبى أنا» لتصبح عنوانا مغايرًا للربيع.
الفيلسوف الفرنسى الحائز على نوبل هنرى بيرجسون صاحب كتاب «الضحك» الذى صار حجر الزاوية فى الكوميديا، له عبارة شهيرة تتسع تخومها لتتجاوز خشبة المسرح وكادر السينما إلى الدنيا وهى «الحياة مأساة تراجيدية لمن يشعرون وملهاة كوميدية لمن يفكرون».
المهم ليس الحدث أو الموقف، ولكن زاوية الرؤية التى نُطل من خلالها عليه، هل بالقلب أم بالعقل، وهكذا تستطيع أن تلمح كل شىء فى حياتنا وهو يخضع لنظرية بيرجسون حتى على المستوى السياسى، أطلقنا على الثورات العربية بقلوبنا صفة ربيع، رغم أنها انطلقت فى عز الشتاء، وكلنا ندرك الآن أن قسطًا وافرًا من الناس- ولست بالمناسبة منهم- يرونها بعقولهم خريفًا.
عشنا قبل أسبوع بزوغ فصل الربيع وعلى الفور تصعد أغنية «الربيع» لفريد الأطرش التى انطلقت فى منتصف الأربعينيات فصارت بمثابة ارتباط شرطى. الربيع لا نعرفه بأوراق شجر أخضر ولا بتغريد العصافير الملونة، ولكنه «ربيع» عندما نستمع فقط لأغنية فريد، ظلت الأغنية مسيطرة بمفردها على المشهد لمدة ثلاثين عاما، حتى جاءت «الدنيا ربيع»، ومنذ ذلك الحين صار للربيع أغنيتان ووجهان مثلما قال بيرجسون، فهو مأساة عند فريد وملهاة عند سعاد!!
جاهين والطويل وسعاد قدموا وجهًا آخر ضاحكا للربيع، بينما مأمون وفريد قدما وجها مليئا بالشجن.. لدينا فى الدراما «البارودى»، أى أن هناك رؤية ساخرة لعمل فنى مغرق فى الدموية، مثلا أفلام الكاوبوى الأمريكية المليئة بالمسدسات والبنادق والدماء، ثم شاهدنا أفلامًا تُقدم الوجه الآخر كاوبوى إيطاليا وإسبانيا بمذاق كوميدى أطلقوا عليه على سبيل السخرية «كاوبوى إسباجيتى»، ولدينا مثلًا فى منتصف الخمسينيات فيلم المخرج صلاح أبو سيف «ريا وسكينة» الذى تناول حياة أشهر قاتلتين فى مصر، بعدها بعام واحد لعب إسماعيل يسن ومع نفس بطلتى الفيلم نجمة إبراهيم وزوزو حمدى الحكيم بطولة فيلم «إسماعيل يسن يقابل ريا وسكينة» إخراج حمادة عبد الوهاب، وفى الثمانينيات شاهدنا يونس شلبى مع شريهان فى رؤية ساخرة، وهو ما كرره المخرج حسين كمال فى المسرحية التى حملت نفس الاسم بطولة شادية وسهير البابلى، وهو آخر عمل فنى لعبت شادية بطولته قبل اعتزالها، وفى الغناء مثلًا يقدم شكوكو ساخرًا من نجاة «لا تكذبى إنى رأيتكما معًا كنت بحسبك ملوخية لكن طلعتى مسقعة» بينما عدوية يغنى ساخرًا من عبد الحليم «نار يا حبيبى نار فول بالزيت الحار».
فى ربيع سعاد نتأكد أنها لا تريد أن تثير أى لحظات من الألم ولكنها تتجاوز عن كل شىء من الممكن أن يعكر صفو اللحظة «قفِّلى على كل المواضيع»!
لنرى تلك الحالة من الامتزاج بهذا التوافق اللا شعورى بين الموسيقى والكلمة وبهجة صوت سعاد حسنى الذى عبر عن حالة التصالح مع الحياة بهذا الرنين الخفى «الشجر الناشف بقى ورور والطير بقى لعبى ومتهور»، بينما فريد لا يزال صوته يحلق بنا فى علِّيين وهو يقول «وغاب عنى لا طمنى ولا قال إمتى راح أشوفه وأقول يمكن ح يرحمنى ويبعت للربيع طيفه».
ملحوظة بناء على طلب الربيع أعيد نشر العمود ثانى مرة!!