العنوان مستعار من عبارة قالها الرئيس الأمريكى ليندون جونسون، وكررها مؤخرا باراك أوباما فى مدينة أوستن بولاية تكساس، فى احتفال بمناسبة مرور خمسين عاما على إصدار قانون الحقوق المدنية عام ١٩٦٤. لم يكن قد مضى على اغتيال جون كينيدى فترة قصيرة حتى قرر جونسون أن يدفع بقانون شامل للكونجرس للموافقة عليه، ينهى إلى الأبد كل آثار فترة العبودية من التاريخ الأمريكى، سواء فيما تعلق بدخول المدارس أو الأندية أو الشركات أو الوظائف العامة أو المواصلات أو الانتخابات. كان القانون الذى جاء تحت شعار «المجتمع العظيم» هو أكثر القوانين تأثيرا فى الدولة الأمريكية منذ قانون تحرير العبيد، والقوانين التى تلت الحرب الأهلية الأمريكية (١٨٦٠- ١٨٦٥) قبل قرن سبق. وعندما عرض الرئيس نيته فى إصدار القانون على معاونيه كان الرفض عارما، لأن القانون شامل كل شىء، والأفضل دائما- هكذا قيل- البدء بخطوات صغيرة، محسوبة، والأهم عدم استعداء الجنوب- الذى كان يصوت ديمقراطيا- على الرئيس والحزب. كان تعليق جونسون الخالد بعد ذلك هو: بحق السماء إذن لماذا يكون هناك رئيس للجمهورية Why in the hell the President is for؟ كان المعنى هو أن منصب الرئيس جاء لكى يتخذ القرارات الصعبة حتى ولو كان الثمن أن يفقد الديمقراطيون أصوات الجنوب لنصف قرن بعد ذلك، وهو ما جرى بالفعل.
لماذا هذه الحكاية الآن إلا لأننا على وشك انتخاب رئيس للدولة فى فترة عصيبة من تاريخ البلاد، يكون على الرئيس فيها اتخاذ قرارات ليست بالضرورة شعبية، ولكنها يكون لها تأثير هائل على نقل الدولة إلى صفوف الدول المتقدمة؟ وببساطة فإننا لا نريد إخفاقا آخر، والحقيقة أن الدول المتقدمة لم تولد متقدمة، وإنما كانت متخلفة مثلنا تماما، وحتى نهاية القرن الثامن عشر، وربما حتى منتصف القرن التاسع عشر، لم تكن دول مثل السويد أو الدنمارك تختلف كثيرا من حيث مؤشرات التنمية البشرية عن موزمبيق، ولمن لا يعلم كانت مصر فى بعض الأمور أكثر تقدما. والحقيقة أن معظم الدول الأوروبية كانت أكثر تخلفا بكثير عن بريطانيا، ولم يكن ذلك لمولد الثورة الصناعية بها فقط، وإنما لأن ملكية الأرض صارت متاحة لكل من يزرعها، ويستثمر فيها وفى البشر فوقها. فى مصر لم تكن المسألة مختلفة، فقد بدأت مصر تعرف الحداثة عندما أعطى محمد على الكبير الفلاحين حق الانتفاع بزراعة الأرض مدى الحياة، وبعد ذلك فى ولاية سعيد باشا أعطاهم حق الملكية، وكانت النتيجة مولد الطبقة الوسطى المصرية لحما ودما من العمد ومشايخ البلد، وأولادهم الذين عرفوا الطريق إلى التعليم المدنى، وأصبحوا قادة أحزاب وجيوش، ونجوم فن، وكتابا وصحفيين، وعلماء من كل نوع. وفى فيلم «الأرض» الذى أخرجه يوسف شاهين، انتهينا والممثل الأسطورة محمود المليجى يمسك بأصابعه وأظافره الأرض، بينما ينزف دما تمسكا بها وحماية لها. وعندما أصدر ثوار يوليو ١٩٥٢ قانون الإصلاح الزراعى كانت النتيجة توزيع قاعدة الملكية فى البلاد، ومعها توسيع القاعدة الاجتماعية للطبقة الوسطى التى بدونها لا يكون تحديث، ولا تنوير، ولا تقدم.
الآن لم يعد هناك «إقطاع» ولا أرض يمكن تفتيتها أو توزيعها من جديد، فهناك حدود دنيا للملكية بعدها يصير الجميع فقراء بأشكال مختلفة، كما أن الأرض ليست زراعية فقط، وحتى لو كانت متاحة للاستصلاح فإن «السقف المائى» المصرى لم يعد على عهده السابق. أرض مصر أوسع بكثير من تلك المساحة المأهولة أو المزروعة والتى لا تتعدى مساحتها ٧٪ من المليون كيلومتر مربع والتى هى مساحة الدولة المصرية. القرار الرئاسى الأعظم الذى وجدت الرئاسة فى الأصل من أجله هو تحرير ٩٣٪ من الأرض المصرية أو ٩٣٠ ألف كيلومتر مربع من التحكم والسيطرة الواقعة عليها من قبل أجهزة مختلفة فى الدولة، وبشكل كبير منذ عام ١٩٦٨ عن طريق القوات المسلحة.
الأرض لمن يزرعها، والأرض لمن يستثمر فيها، والأرض لمن يعمرها، هى البداية الأولى لعملية التقدم فى كل بلدان العالم، فالملكية الخاصة هى بداية حرية الفرد فى اتخاذ القرارات بما فيها قرار التصويت فى الانتخابات، وهى التى عليها تقام الشركات والمصانع وهذه تصير أسهما وسندات يمكن تملكها والربح منها. وأكثر من ذلك أن أرض مصر متميزة، فعندما تكون الأرض واقعة على ثلاثة آلاف كيلومتر من السواحل، التى يقع أمامها فى البحر الأحمر وحده ٨١ جزيرة، وفى النيل ١٥٥، منها ١٥ فى القاهرة وحدها، فإننا نكون أمام ثروة طائلة. الأمثلة أمامنا واضحة وجلية، وفى مصر وليس فى القطب الشمالى، فمالذى جرى فى مدن شرم الشيخ والغردقة والجونة ومرسى علم ودهب ونويبع، وما الذى حدث فى ٣٠ مدينة أخرى داخل الوادى؟ التعليق الدائم هو أن الأغنياء فقط هم المستفيدون من هذا التطور ليس صحيحا، فمدن القاهرة الجديدة ليست مثل ١٥ مايو، ولا مدينتى مثل نيو هليوبوليس، ولا ٦ أكتوبر مثل السادات. فى كل من هذه وتلك توجد شرائح اجتماعية مختلفة، ولو أن شروط تملك الأرض كانت متاحة بسهولة ويسر لاستطاع الفقراء البناء بطريقة شرعية، بدلا من العشوائيات التى كسرت كل القوانين المعروفة وغير المعروفة فى مصر. إسكان محدودى الدخل متاح فى كل دول العالم «المتقدمة»، ولكنه إسكان آدمى تم عن طريق مواطنين أحرار، وليس على طريقة مساكن عين الصيرة التى صارت نموذجا مبكرا للعشوائيات الحكومية، ثم تبعتها العشوائيات الخاصة.
وبصراحة دون حل مشكلة ملكية الأرض فى مصر عن طريق إيداعها بنكا للأراضى حسب اقتراح المهندس صلاح دياب، فإن تحقيق انطلاقة فى التنمية والتقدم المصرى سوف تصير محض سراب، وعبارات رنانة، وربما ثورات متعددة. مصر عليها أن تضع نهاية لحرب الثورات والأيديولوجيات والكلمات الكبرى، وتتقدم نحو المنافسة فى التنمية والبناء والتعمير. المدهش أن الشباب الثائر على استعداد لدخول السجون إعتراضا على قانون التظاهر، وهو قانون يحتاج بالفعل مراجعة من مجلس النواب القادم حتى يكون قانونا حقيقيا وقابلا للممارسة بسلمية وعدل، ولكن ألا يوجد فى جدول الثورة أمر ما يتعلق بالبناء والتعمير والملكية والاستثمار، وباختصار التنمية. الشعار العام هو تحقيق العدالة الاجتماعية، وهو شعار نبيل وعنوان للدول المتقدمة، ولكن العدالة الاجتماعية تحتاج «ثروة» حتى تتحقق العدالة بشأنها، وفى غياب الثروة فإن المسألة كلها لا تصبح أكثر من توزيع الفقر، وفرار أصحاب الثروة، ومن ورائهم أصحاب المهارة والعلم، وبعد هذا وذاك ربما نحتاج ثورة ما مع طلوع كل شمس تطالب بالعدالة الاجتماعية، ولكن ما باليد بعد ذلك لا يوجد إلا هواء وقبض ريح.
أعرف أن هذه ليست المرة الأولى التى أطرح فيها هذا الموضوع، ولكن فيما عدا الأستاذ سليمان جودة فإن أحدا فيما أعرف لم يهتم. ومن المدهش أن المرشحين لرئاسة الجمهورية حتى الآن لا يقتربون من الموضوع، لأن معنى ذلك الاقتراب من موضوعات حساسة. ولكن لهذا كان منصب رئيس الجمهورية، لأن له من المكانة الرفيعة، والسلطات الدستورية، والصفات القيادية، والشرعية الانتخابية النزيهة، ما يجعله يطرق أبوابا مغلقة، ويفتح نوافذ حجبت هواء التقدم عن بلادنا لفترة طويلة. هل يستطيع المشير عبدالفتاح السيسى أن يفعل ما فعله محمد على وسعيد وجمال عبدالناصر من قبل من زيادة رقعة الملكية وعدد الملاك فى مصر؟ وهل يستطيع الأستاذ حمدين صباحى أن يقوم بالإصلاح الصحراوى والشاطئى- بعد الإصلاح الزراعى- بحيث يتيح المزيد من الأرض المصرية للمصريين؟ وهل يستطيع الأستاذ مرتضى منصور أن يفك عن الرقبة المصرية قوانين ولوائح وشرائع منعتها حتى الآن من التقدم؟
المطلوب ليس جديدا بالمرة، سواء على مستوى العالم، أو حتى على المستوى المصرى، ولكن ما تحتاجه مصر هو عملية إنقاذ واسعة النطاق لا يمكن أن يقوم بها سوى رئيس على استعداد للتعامل مع جماعات للمصالح نشطة للغاية، وجماعات أخرى تتخوف من كل تغيير، وترى فى الخمول والركود وبقاء الأمور على ما هى عليه ذروة المنتهى.
مهمة الرئيس أن يقنع الأولين بأن التغيير فى مصلحة الجميع، والآخرين بأن الثمن مرتفع للغاية! وقد دفعته مصر حتى الثمالة.