هذان الاسمان المشعلقان أعلى هذه السطور.. أظنك تتساءل بقدر كبير من الحيرة والدهشة عن العلاقة بينهما، وكذلك علاقتهما بسطور أمس التى كرستها لـ«العبث» وختمتُها بملخص مخل جدًّا لواحدة من أجمل نصوص المسرح العبثى وأكثرها إنسانية. مسرحية «الخادمتان» الممهورة بتوقيع جان جينيه ذلك الشاعر والأديب الفرنسى الذى كان خليطًا من موهبة عبقرية وتشرد وتمرد دائمين ولعنة طاردته أغلب سنين حياته القاسية الصاخبة.
وأظن أنِّى حيرتُك الآن عزيزى القارئ، وأكاد أسمعك تسأل أيضا عن علاقة «العبث» بصديقى الشاب أحمد دومة، هذا الذى قد تراه ذاهبًا فى الشطط والحماس (أو حتى الحماقة) بعيدًا جدًّا، بيد أنك لا تستطيع إنكار حقيقة إخلاصه وشرفه ووطنيته التى بغير حدود.. وحالا ستعرف الدافع الذى ألهمنى اعتبار مقال أمس مقدمة لمقال اليوم.
أظن أفضل بداية للإجابة عن السؤال الأول، أى العلاقة أو وجه الشبه بين دومة وجينيه، هى وصف هذا الأخير لحاله ونفسه عندما قال ذات يوم: «إننى أرجو بإلحاح أن لا يتغير هذا العالم لكى يمكننى الوقوف ضده دائما».
إذن، ومع تسليمى بالفوارق الشاسعة ثقافيا ومعرفيا وإبداعيا، وكذلك فى السيرة الذاتية بين جان جينيه وصديقى الشاب، فإن شيئًا قويًّا من معنى العبارة السابقة يبدو منطبقًا على حالة أحمد دومة، ويكفى دليلًا على هذا الانطباق أن صاحبنا هذا تمرد على نظام المخلوع وولده ودخل السجن، ثم تمرد على العصابة الإخوانية التى ورثته ودخل السجن أيضا، وهو الآن وبعد ثورة 30 يونيو الأسطورية، متمرد وفى السجن أيضا.. هنا بالضبط مكمن علاقة «العبث» بالموضوع كله.
وأعود إلى جان جينيه، فقد كابد فى نشأته آلام الفقر والحرمان واليتم المبكر (كان لقيطًا مجهول الأب، وسلمته أمه إلى ملجأٍ شب وتربى فيه) وظل طريدًا متشردًا منبوذًا يعيش ويقتات من السرقات الصغيرة، لكنه كان نهمًا للقراءة وتفجرت مواهبه وقدراته الإبداعية وهو يتجول على السجون و«تخشيبات» التوقيف، وكتب أول أعماله الأدبية الكبيرة فى الزنازين التى أنفق فيها زمنًا كبيرًا من عمره، ثم تبعها بعشرات القصائد والمسرحيات والكتب (أغلبها خرجت إلى النور من ظلمات السجن) أشهرها كتاب سيرة حياته المسجل فى تاريخ الإبداع بوصفه قطعة ثمينة من أدب الاعتراف، بعنوان «مذكرات لص».
لقد ظل جينيه الذى وصفه جان بول سارتر فى سِفر ضخم ألّفه عنه بأنه «قديس» و«شهيد» معًا، مخلص جدًّا للمهمشين والمظلومين والبائسين الطالع هو نفسه من صفوفهم، وجعل من تشرده الاضطرارى منهج حياة فحافظ على عصيانه وانفلاته وتمرده الدائم على النظم المجتمعية والأخلاقية السائدة والمتحكمة فى حيوات ومصائر البشر وبقى يعتبرها ظالمة وقاسية وتنضح بالكذب والزيف، كما تمسك حتى النهاية بنقاء روحه ونزوعه الفطرى نحو الانحياز للمقهورين والمعذبين فى الأرض، لهذا ناصر بقوة قضايا الزنوج وعارض ببسالة استمرار احتلال بلاده للجزائر، كما ناضل الحرب العدوانية الأمريكية على فيتنام، وبعد أن تعرف على القضية الفلسطينية فى أواخر ستينيات القرن الماضى صار أكبر داعم لنضال الشعب الفلسطينى فى العالم الغربى، وتجاوز فى الدعم والمساندة حدود مجرد إعلان الموقف، بل عاش مدة عامين كاملين (من العام 1970 حتى 1972) فى مواقع وخنادق الفدائيين الفلسطينيين فى الأردن وجنوب لبنان، وكان أول أوروبى يدخل مخيمَى «صابرا وشاتيلا» بعد المجزرة المروعة التى ارتكبها العدو الصهيونى فى المخيمين هذين عام 1982، وكتب عما شاهده من فظائع وبشاعات، نصًّا تاريخيًّا ثمينًا يقطر بالروعة والصدق عنوانه «أربع ساعات فى شاتيلا»، ثم لحقه بكتاب موسوعى ضخم عن قضية فلسطين المسروقة ونضال شعبها من أجل استعادتها، حمل اسم «الأسير العاشق».
وأختم بأن جان جينيه داهمه السجن مرة وهو واقف بالفعل على عتبة سلم الشهرة والمجد الأدبى، إذ حكمت عليه إحدى المحاكم فى العام 1947 بالسجن مدى الحياة بعدما أدانته باعتياد السرقة واحتراف خرق القانون، يومها هب أكبر الكتاب والأدباء والفنانين فى فرنسا لإنقاذ هذا «القديس المنبوذ»، وأطلق الشاعر والأديب والفنان الكبير الشامل جان كوكتو (1889 ـ 1963) صيحته «أفرجوا عن جينيه» فسرت هذه الصيحة كالنار فى الهشيم وتداعى أهم نجوم مجتمع الإبداع والفكر (منهم سارتر، وأندريه جيد، وسيمون دى بوفوار وغيرهم) لكتابة عريضة رفعوها إلى رئيس الدولة الفرنسية، طالبوه فيها بأن يستخدم صلاحيته الدستورية ويصدر أمرًا رئاسيًّا بالعفو عن جينيه، وهو ما حدث فعلًا.
وأنا شخصيًّا أعتبر الدعوة التى أطلقها قبل أيام عمُّنا وشاعرنا العظيم عبد الرحمن الأبنودى بالإفراج عن دومة تماثل تمامًا الصيحة التى أطلقها كوكتو من أجل تحرير جينيه، ولا أرى أى فرق.. فيا سيدى الرئيس والقاضى الجليل عدلى منصور، «أرجوك أفرج عن هذا الشاب الذى كل عيبه أنه يمزج النزق بالإخلاص ويخلط الشرف بالاندفاع والحماقة، لكن هذه الأخيرة ليست جريمة فى الديمقراطية، جريمة تستحق السجن، كما أن وحدتنا الآن فى مواجهة عصابات الخونة والمخربين والإرهابيين أمر جد خطير ويستحق الاعتبار.