لست أظن أن أحدا ممن يعيشون معنا فى هذا الوطن، يستطيع الفصال والجدال فى حقيقة أننا نعايش ونكابد حاليا واقعا صعبا وتحديات خطرة، وربما نادرة المثال فى تاريخنا الحديث كله. غير أن أشد مكونات هذا الواقع إرهاقا للعقل وتشتيتا للمشاعر وسحقا للقلب، هى تلك الوقائع العبثية التى تتفجر فى وجوهنا من دون داع، فتجرح عواطفنا الإنسانية وتفاقم من وجع ومعاناة لم يكن ينقصهما المزيد. لهذا الكلام مناسبة، سأرجئ الإفصاح عنها إلى سطور الغد إن شاء الله. أما اليوم فسأكتفى بمقدمة «ستكتشف مغزاها غدا»
أبدؤها بأن الشارحين والمنظرين لـ«مسرح العبث» يقولون إن صناعه ومبدعيه الكبار كانوا يكتبون نصوصه الصعبة لا لشىء إلا لكى يهتكوا حجاب الضجيج، الذى يستر أو يشوشر على مظاهر وشواهد ترسم معالم عبثية ولا معقولية حياة البشر فى زمننا المعاصر، وكيف هى جدباء وغارقة فى الزيف، فأما الوسيلة فهى محاكاة حقائق الواقع المعيش ونقلها عارية وبغير كذب ولا زواق إلى خشبة المسرح، باستخدام تناسق ومنطقية درامية خاصة، قد تبدو غريبة وصادمة، لكنها أصدق وأقل ترويعا مما يجرى فى الحياة الواقعية خارج قاعة العرض.
والفكرة الأساسية فى مسرح العبث هى الفوضى الشاملة، وأن لا شىء فى مكانه، وأن حياة الناس تمضى آلية ورتيبة ومضجرة، ويبقى الجميع يدورون فى حلقة مفرغة تجعل «اللى نبات فيه نصبح فيه» هو اليقين الوحيد، الذى نستطيع أن نمسك به ونحن نعيش واقعا يبدو لأول وهلة قلقا مضطربا ومفعما بجَلَبة هائلة، لكنه فى العمق والحقيقة راسخ ثابت على حاله لدرجة التحجر.. فالأيام تمضى علينا والزمن يتآكل ويتسرب من بين أيادينا، بينما الأحداث تتكرر، والأنباء والأخبار تعيد إنتاج نفسها، حتى استحال وجودنا الإنسانى كأنه فراغ يولد من فراغ، ثم لا شىء ولا خطوة واحدة للأمام. هذا المعنى جسده الشاعر والمسرحى الكبير صمويل بيكيت، بأن وضع أبطال إحدى مسرحياته فى «براميل» فلم تظهر من أجسادهم غير الرؤوس، وظلوا يتبادلون -فى ظلام شبه تام- الصمت وكلمات بلا معنى ولا سياق حتى انتهت المسرحية!
أما الروائى والشاعر الفرنسى العبقرى جان جينيه «1910-1986»، الذى طاردته لعنة الصدق المطلق والتمرد الدائم بغير حدود، فقد صور فى مسرحيته «الخادمتان» تعقيد العلاقة بين السيد والعبد، من خلال رصد وقائع هروب بطلتيه («صولان» و«كلير») من حياة الانسحاق والعدم التى تعيشانها منذ ثلاثين عاما فى منزل تلك العجوز الشمطاء المتصابية والمتغطرسة، إلى ترهات وأكاذيب تلقيها كل منهما على مسامع الأخرى، بينما كلتاهما تتقمص -بالتبادل- دور سيدة البيت
«بعدما اختلسا وارتديا ملابسها وحليها» فى لعبة مكشوفة ولا نهائية رسمها جينيه، وصممها وجعلها تستهلك أغلب زمن المسرحية من أجل غاية وهدف مزدوجين، أولهما سرد عينات من معاناة القهر والذل، اللذين وسَما حياة كل منهما، وهما يكابدان الأسْر الطويل فى بيت هذه السيدة، والهدف الثانى هو تجسيد وإظهار قوة دوافع الخادمتين للانتقام من هذه الأخيرة ووضع خطة لقتلها بالسم. غير أن الخطة تفشل، فتندفع إحداهما لتناول السم نفسه، الذى لم تشربه مخدومتها، وتفوز أخيرا براحة الموت تاركة خلفها رفيقة الأسْر تعانى قسوتين.. فراق رفيقتها اللدودة، وفقدان الأمل فى الخلاص من حياة عبثية وممضة ومنقوعة فى الذل. و.. نكمل غدًا.