لم يقرر شمس بدران أن يحكى الآن بالتحديد، لكنه قرار من جهة ما سياسية أو تجارية، قررت أن تدخل به السوق، ليس بغرض الأرباح فقط، ولكن بغرض التدخل فى توليفة يبدو أنها قادمة للحكم فى مصر، وتجمع بين ناصرية وساداتية فى مزيج واحد. استدعاء شمس بدران من أجل إثارة فزع «النيو ناصرية» التى لم تتعود على سلاح الفضائح فى حق عبد الناصر شخصيا/ ورخصة ذلك النوع الفج من الفضائح الجنسية. الحرب التجارية/ السياسية بهدف تخفيف الجرعة الناصرية فى التوليفة القادمة/ لم تجد أفضل من خروج شمس بدران عن صمته.. فهو رجل يقترب من الثمانين «مولود فى 1929».. يشارك فى مصنع أعلاف الدواجن.. ويقيم بعيدا عن الأضواء فى مدينة صغيرة بجنوب إنجلترا.. وملامحه تكاد تكون لعجوز عادى.. رغم أنه وهو فى منتصف عامه السابع والثلاثين كاد أن يشعل مصر. الطريقة التى غادر بها شمس بدران مصر.. غامضة جدا.. أفرج عنه السادات فى أول عيد نصر بعد حرب أكتوبر. اسم شمس بدران كان غريبا جدا فى قائمة المفرج عنهم، هو وصلاح نصر، لكن شمس بدران منحه السادات ميزة، تركه يغادر مصر بجواز سفر دبلوماسى. لماذا؟ هل كانت صفقة؟ قرأت كثيرا فى تعليقات الصحافة بعد رحيل السادات عن لغز هروب شمس بدران إلى لندن. شمس بدران لم يتحدث حتى قررت مؤسسة «الأهرام» فى نهايات 2010 تسجيل مذكراته تليفزيونيا وبثها فى مشروع تليفزيونى. لكن وقتها تسربت نفس القصة/الفضيحة من بين ثنايا مذكرات واسعة. وهاجت الدنيا وماجت وقررت المؤسسة بناء على تعليمات رئاسية تأجيل نشر المذكرات، إلى أن قررت صحيفة كويتية «السياسة» أن تدخل على الخط التجارى/ السياسى، وتفتح ملفات عبد الناصر بذلك المدخل المثير لشهية النميمة.. ويحكى فيها عن طلب عبد الناصر شرائط مسجلة لسعاد حسنى. هكذا اختصرت رواية الرجل الغامض فى تلك الحكاية/ الفضيحة التى لا يمكن تصديقها واقعيا، لكن إثارتها سياسيا تعبر عن مخاوف أجنحة من صعود الحس الناصرى فى المزيج الذى ينتظر أن يحتل مواقع الحكم. رواية شمس بدران عن أيامه الذهبية التى انتهت نهايات سوداء عليه وعلى مصر. انتهت بهزيمة جيش مصر فى يونيو.. وهو كان الفتى الذهبى المدلل للمشير عبد الحكيم عامر.. كان عامر نائب رئيس الجمهورية والقائد العام وشمس بدران انتقل من مدير مكتبه إلى منصب وزير الحربية الذى يمتلك صلاحيات 10 وزراء حربية. لم يكن وزير حربية عاديا، يخطط للحرب مع إسرائيل. ولم يعرف عنه عبقرية عسكرية ملفتة للنظر. إنه موهوب فى موقع الرجل الثانى، فى إدارة السلطة من خلف الواجهات الكبيرة. اسمه كان كفيلا بإثارة الرعب ليس لإسرائيل بل للمصريين. اسمه محفور فى التاريخ على عمليات تعذيب غير مسبوقة، أى أنه كان يقوم بمهام رجال حراسة النظام لا مهام القادة العسكريين فى حروب مصيرية. موهبته أدت به إلى موقع آخر كاد فيه أن يصبح رئيسا لمصر.. بل إنه عاش ساعات بين 7 إلى 8 يونيو 1967 يستعد لكى يصعد إلى مكتب عبد الناصر ليكون رئيس الجمهورية الجريحة. شمس بدران شاهد على ما يقال عن حرب السلطة بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر.. تلك الحرب التى قيل إنها السبب فى هزيمة يونيو التى كتب يومها معلق فى الصحيفة الأمريكية «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت»: «.. لم يحدث من قبل فى التاريخ أن جلب كل هذا العار على أمة واستطاع حكامها إخفاء حقيقة ما حدث على أمتهم، مثل هذه المدة التى ظل طوالها الشعب المصرى يعيش فى ظلام دامس لا يدرى عما حدث شيئا..». والمثير للضحك قبل الانتباه أن شمس بدران يروى اليوم أن سر الخلاف هو أن حكيم طلب من ناصر «تطبيق الديمقراطية». فى صوره الأخيرة يبدو رجلا طيبا ضاعت أيامه قبل أن يهرب.. «ونحن هنا نصف خروجه من القاهرة إلى لندن بالهروب، رغم أن كان بعلم رئيس الجمهورية وقتها (السادات).. وبجواز سفر دبلوماسى، وبأموال قيل مرة إنه هربها فى أثناء السلطة.. ومرات إنها هدايا من السادات». حكايات لم يهتم شمس بدران إلا بإنكارها فى حوارات غير مكتملة، بدا فيها كما لو كان تحول إلى زاهد حتى فى التحدث عن دوره ليلة الثورة فى 1952. ولماذا لم يصر أحد فى مصر على محاكمته ليس فقط على مؤامرة الانقلاب على عبد الناصر لصالح عبد الحكيم عامر.. كما حدث فى الستينيات.. أو على جرائم تعذيب الإخوان المسلمين كما حدث فى السبعينيات. لكن على دوره فى كارثة 1967، التى لم يهتم أحد بفتح ملفاتها. المهم فقط المؤامرة التى فكر شمس بدران خلالها فى خطف عبد الناصر. وتصور أن حظه فى الرئاسة ضاع بسبب مؤامرة بين عبد الناصر وهيكل فى أثناء كتابة بيان التنحى، بعد أن كان اتفاق اقتسام السلطة بين ناصر وعامر وصل إلى اختيار شمس رئيسا، حتى لا تشتعل فى مصر حرب أهلية. رغم أن مصر كانت محترقة أساسا. احترق شمس بدران بنيران أحلامه فى الصعود درجات أعلى فى السلطة. شمس لم يكتف بالكواليس، وقرر الدخول مباشرة فى لعبة الكبار. ولأنه رجل تنفيذى لا يجيد مهام الصفقات السرية فقد احترقت أصابعه. لكن صمته مريب، حتى وهو يدافع عن حقه فى الاحتفاظ بتسجيلات نادرة للموسيقار محمد عبد الوهاب فى القضية التى فجرها قبل سنوات قليلة فاروق جويدة، عندما كشف عن حكاية رواها له عبد الوهاب وهى أن شمس بدران كان يجبر الموسيقار على الغناء له وحده كل خميس، ويقوم بتسجيل الحفلات الخاصة حتى وصلت إلى 40 ساعة.. طلب فاروق جويدة الإفراج عن التسجيلات النادرة التى تمت تحت سطوة وجبروت الرجل المرعب، لكن شمس بدران قرر الاحتفاظ بالتسجيلات. والأسرار معا. «من حكايات القاهرة»
وائل عبد الفتاح يكتب: لغز شمس بدران
مقالات -
وائل عبد الفتاح