عزيزى القارئ.. هل تشاركنى ذلك الإحساس العميق الذى يداهمنى أحيانا كثيرة هذه الأيام بأن شخصا أو جماعة أو عصابة، معدومًا أو معدومةَ الضمير استغلت غلبنا وغفلتنا ودفعتنا بعنف وقسوة للسكن فى نكتة هائلة وكبيرة بحجم الوطن ومأساته، ثم أحكمت إغلاق باب زنزانة الهزل علينا؟! أظنك تعيش معى فى هذه النكتة الوطنية السخيفة، لكنك مكسوف تعترف، أما أنا فقد بلغ إرهاقى النفسى والعقلى حدًّا لا أملك معه ترف الخجل من الإقرار علنًا بالحقيقة المرة.. ومن الحقائق أيضًا أن الناس تعودوا أن يأخذوا من النكت حلاوة الضحك ومتعة الطرافة ولا يهتمون بالمساكين الأغبياء أبطالها والساكنين فيها، لهذا قررت اليوم أن أتضامن معك ومع نفسى وأكرس السطور المقبلة لبعض هؤلاء السكان، تحديدًا السادة الأشرار الذين يلعبون وينحشرون معنا فى نكتة مصر. وأبدأ بمشهد واقعى من مشاهد نكتتنا المستمرة، هذا المشهد حدث مع العبد لله شخصيا من سنوات، فقد كتبت ذات مرة نصا هزليا اخترعت فيه وزارة ووزير لـ«شؤون الأنابيب والثروة السمكية» منطلقا من حقيقة أنهما أصبحا يشغلان حاليا حيزًا لا بأس به من اهتمام الإنسان المصرى المعاصر، فالأولى غائبة ومأزومة أغلب أيام السنة، والثانية معتلة الصحة، لأنها تشرب وتأكل معنا من مياه المجارى، لكن ولدهشتى الشديدة، ما إن أذيع هذا النص الخيالى حتى وجدت من يبلغنى أيامها أن ربع أعضاء الوزارة اشمئنطوا وغضبوا منه، إذ اعتبر كل واحد منهم نفسه الوزير المسؤول والمعنىّ مباشرة بـ«شؤون الأنابيب والثروة السمكية» معًا!! وقد ترى الجمهرة الغالبة من القراء الأعزاء فى رد فعل هؤلاء الوزراء ما يشير بوضوح إلى مستوى الذكاء، أو بالأحرى مستوى الغباء المستشرى فى أوساط هؤلاء الذين ساقتهم علينا الأقدار السوداء ليحكمونا ويتحكموا فى أهالينا حقبًا وسنين طويلة، لهذا سأستمر فى تتبع وملاحقة هذا النوع من الأغبياء فى «نكتهم» الحصينة، مثل تلك التى تحكى عن حاكم ممن ابتلينا بهم وعرفناهم فى العقود الأربعة الأخيرة.. هذا الحاكم مات (فى النكتة) وفور أن صعدت روحه إلى بارئها تشكلت بسرعة لجنة من عشرة ملائكة تولت مهمة حساب روحه.. ملاك واحد فقط كان يسأله، بينما التسعة الباقون يحاولون شرح كل سؤال للمرحوم. ويحكى أيضا أن هذا الحاكم قبل أن يموت اصطحب معه زائر مهم (يقال إنه كان أقل غباء من صاحبنا) وذهب الاثنان فى جولة تفقدية على المدارس بهدف إطلاع الضيف على أثر خطط النهوض بالجهل ورعاية الأمية، وفى واحدة من هذه المدارس التى هبط عليها الحاكم وضيفه فجأة ومن دون إخطار سابق، على ما تدل قصارى الزرع التى اصطفت فى ردهاتها وكل المنطقة المحيطة بها، اقتحم الرهط الفخم أحد الفصول فى أثناء تلقى التلاميذ درسًا فى التاريخ كان عنوانه المكتوب على «السبورة» بخط منمق جميل «الحملة الفرنسية ـ مقتل الجنرال كليبر» خليفة نابليون فى قيادة الحملة.. التقط الزائر هذا العنوان وقرر أن يستعرض ثقافته ومعلوماته الجغرافية العميقة، وبالمرة يظهر أمام الكاميرات متواضعًا ومتبسطًا مع أحفاده التلامذة أبناء الشعب الشقيق، فهتف وهو يرسم ابتسامة صفراء ساحرة على محياه قائلا: هيه يا ولاد.. عايز حد شاطر منكم يقول لى من الذى قتل كليبر؟ ساد صمت القبور على الفصل ولم ينبرِ ولا تلميذ واحد يوحد ربنا لكى يرد على سؤال الضيف الكبير مما اضطره إلى إعادته مرة ثانية، لكنه لم يتلق إجابة غير الصمت الثقيل المرتبك نفسه.. هنا مال حاكمنا المثقف على رأس ضيفه وهمس فى أذنه متسائلا: سيادتك، طال عمرك، متأكد إن اللى قتل كليبر موجود فى تالتة أول؟! و.. أختم بما يقال عن حوار جانبى دار بين وزيرين كانا يحضران اجتماعًا مهمًّا للحكومة انتهى إلى تشكيل وفد يزور الصين من أجل زيادة التعاون الاقتصادى والتجارى معها أكثر من كده، فقد سأل أحدهما زميله الجالس بجواره فى الاجتماع عن المسافة من القاهرة للعاصمة الصينية بكين وقال: تطلع قد إيه يا ترى؟ بيقولوا طويلة جدًّا؟ ورد الوزير الثانى بأن المسافة بسيطة ومش طويلة ولا حاجة، وقال مؤكدًا: عندنا فى ديوان الوزارة بنستعين بخبير صينى.. الراجل ده بيجيلنا كل يوم الصبح بالعجلة بتاعته، عادى خالص!!
جمال فهمي يكتب: سكان «نُكتنا»..
مقالات -
جمال فهمي