كثيرة هى دوافع الإشفاق على الرئيس القادم الذى سيواجه تركة ثقيلة تتضمن تلالاً من المشاكل المتراكمة على مدى عقود. غير أن المشكلة الأشد خطراً هى الحالة التى آل إليها المجتمع بثقافته السائدة وقيمه الغالبة والعلاقات بين فئاته المختلفة من ناحية وبين أفراده وبعضهم البعض من ناحية أخرى.
ولعل ما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى عند الحديث عن مشكلة حالة المجتمع المصرى اليوم هو الانقسام السياسى، وما يقترن به من توتر واحتقان، وما يفرزه من عنف، بسبب الصدام الذى تصر قيادة جماعة الإخوان على خوضه. غير أن هذا الانقسام ليس إلا عرضاً واحداً من أعراض حالة المجتمع والمرض الذى ينهش فيه من جراء شيوع ثقافة «أنا ومن بعدى الطوفان»، وما تؤدى إليه من صراعات غير محدودة على فرص محدودة، وفى غياب معايير موضوعية وضوابط قانونية تتيح توزيع هذه الفرص بطريقة عادلة.
ففى أى مجتمع تقل موارده عن احتياجاته، وتزداد الفجوة بين ما يتطلع إليه أفراده وما يتوفر فيه من فرص، بسبب المعدلات المرتفعة للزيادة السكانية والمعدلات المنخفضة للتطور الاقتصادى مع انتشار الظلم، يتحول التنافس على الفرص المحدودة سواء للعمل أو للترقى أو لزيادة الدخل إلى صراع تشتد حدته يوماً بعد يوم، ويكتسب طابعاً عدائياً على نحو يخلق وضعاً يبدو فيه هذا المجتمع كما لو أنه فى «حالة حرب» غير معلنة.
وقد حدث هذا فى مصر تدريجياً منذ سبعينيات القرن الماضى، حيث انتشرت ثقافة مجتمعية سلبية شاع فى ظلها الاعتقاد فى أن نجاح الفرد- أياً كان نوع هذا النجاح ومجاله ومستواه- مرتبط بفشل آخرين، فلكى أتقدم إلى الأمام، لابد من إبعاد الآخرين وإقصائهم وصولاً إلى القضاء عليهم بشكل أو بآخر إذا لزم الأمر.
وتبدو هذه الحالة المجتمعية غير الطبيعية هى المشكلة الأكثر خطراً التى تواجه الرئيس القادم بدءاً من يومه الأول فى السلطة، فبدون تغيير هذه الحالة، سيكون صعباً البدء فى معالجة مثمرة للمشاكل الضخمة التى يتطلع المصريون إلى حلها دون وعى أغلبهم بأن الثقافة المجتمعية السائدة تمثل عائقاً جوهرياً أمام الخلاص الذى ينشدونه.
ولذلك يتعين على الرئيس القادم إعطاء أولوية قصوى لوضع حد لثقافة «حرب الكل ضد الكل» عبر إزالة الاختلالات التى أنتجتها، وفى مقدمتها غياب المعايير الموضوعية التى يمكن الاحتكام إليها فى التنافس غير المحدود على الفرص المحدودة، مع العمل بأسرع ما يمكن لزيادة هذه الفرص.
ولعل الخطوة الأولى بل الفورية فى هذا الاتجاه هى إعادة الاعتبار إلى مبدأ المساواة الكاملة أمام القانون، بحيث تكون القاعدة القانونية عامة ومجردة، بمعنى أنها تُطبق على الجميع دون تمييز بين قوى وضعيف أو بين غنى وفقير أو بين حاكم ومحكوم، فعندما يعود القانون ليكون فوق الجميع، ستصبح القواعد المنظّمة لحياة الناس قابلة للاحترام بما فى ذلك تلك التى تحكم التنافس بينهم على الفرص بأنواعها المختلفة، وفى هذه الحالة يحدث التنافس فى أجواء طبيعية، ويطمئن من يخسر فرصة يسعى إليها لعدالة المعايير التى تحكم هذا التنافس، فلا يتحول إلى صراع عدائى.
غير أن وضع حد لهذه الحالة الصراعية يتطلب إدراك أنه كلما ازداد حجم المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر فى النظام الاقتصادى، كان هذا أدعى إلى انتشار روح التعاون، فيتسم هذا النوع من المشاريع بأن النجاح فيه يتطلب تعاوناً، بخلاف المشاريع والشركات الكبيرة التى تعمل فى المجال نفسه.
ولذلك لم يحقق النظام الرأسمالى التقدم الكبير الذى أنجزه إلا نتيجة التوسع الكبير فى المشاريع الصغيرة، فهذا التوسع هو الذى أبطل مفعول نبوءة كارل ماركس بشأن مستقبل الرأسمالية، رغم أنها كانت قائمة على معطيات قوية فى حينها، فلولا المشاريع الصغيرة، لربما انفجرت الرأسمالية من جراء تحول التنافس إلى صراع عدائى، فى غياب مقومات للتعاون المجتمعى الذى لا يمكن لأى مجتمع أن يتقدم فى غيابه.
فإذا وعى الرئيس القادم أهمية إعادة الاعتبار لمبدأ المساواة الكاملة أمام القانون، وبالتالى فى توزيع الفرص المتاحة، وضرورة وضع خطة قومية كبرى للمشاريع الصغيرة، وأضاف إليها تحرير المجتمع المدنى، وتدعيم دوره، ربما يستطيع مواجهة المشكلة الأشد خطراً، وإخراج المجتمع من حالة «حرب الكل ضد الكل».