هناك انطباع شائع عن المتخلفين الساعين للتأخر، خلاصته أن هؤلاء هم فقط الذين يسكن أدمغتهم الفارغة ذلك الوهم الذى يُزين لهم أن بمقدورهم إعادة إنتاج الماضى، أو الهجرة إلى العصور والأزمان الغابرة والإقامة الدائمة فيها.. كما أننا نرى ونسمع مفهوما عكسيا للتقدم يتوهم أصحابه أن طريق النهوض وبناء المستقبل الأفضل يبدأ من خرافة القطع التام والفورى مع التاريخ المنقضى وإهماله واعتباره كأن لم يكن.
غير أن هذا الانطباع وذاك المفهوم كليهما خاطئ، والاثنان يصبان فى مستنقع التخلف، إذ إن الحقيقة الغائبة عن كثيرين أن التاريخ حلقات زمنية متصلة تفضى كل منها إلى الأخرى وتتشابك معها.. ومع ذلك تتمركز هنا حتميتان أو استحالتان لا يمكن مراوغتهما، ولا التملص من تحكمهما المطلق فى حيواتنا، الأولى أن الزمن المنتهى لا يعود أبدا، والثانية أن آثار كل عصر غابر تبقى ممتدة وحاضرة فى الزمن اللاحق، لهذا فإن كل شىء حديث ومستحدث لا بد أن له أصلا وجذرا فى الماضى.
آية ذلك أن كل منجزات التقدم وتطبيقات العلوم الثورية «التكنولوجيا» لم تهبط على رؤوس البشر فجأة كده يوم اختراعها فى صورتها الراهنة المعروفة، وإنما هى نتاج مسيرة طويلة ومضنية، بدأت تبشيرا من أصحاب عقول نيّرة ومخيلات خصبة ورحبة، ثم عبرت على محاولات وإخفاقات لا أول لها ولا آخر، وأخيرا تحولت الخيالات إلى حقائق مادية وصارت البشارات إنجازات نتمتع فعلا بها الآن، ولا نستطيع أن نتصور الحياة من دون وجودها.
يعنى مثلا، نحن الآن نطوى المسافات على سطح هذا الكوكب طيا «بل ونمخر عباب فضاءات الدنيا المترامية خارجه» على متن آلات تطير بسرعات بعضها أضعاف سرعة الصوت، لكننا أغلب الوقت لا نتذكر جدنا العالم العربى الأندلسى عباس بن فرناس «أبو القاسم عباس بن فرناس التاكرانى، 810-887»، فهذا الرجل النابه الذى غطت بحوثه وتأملاته واجتهاداته مساحة واسعة من العلوم العقلية والطبيعية، فلك ورياضيات وكيمياء وفيزياء وكتابات فى الفلسفة أيضا، هو صاحب أول محاولة جادة فى التاريخ «سبقتها محاولات أقل علمية وأكثر خيالا» لقهر الجاذبية الأرضية والتحليق فى الهواء.. هذه التجربة التى نجحت جزئيا، إذ تمكن ابن فرناس من الطيران بجناحين صممهما وصنعهما بنفسه مسافة بضعة أمتار قبل أن يسقط ويفقد حياته، فاتحا بجسارته ونباهته، الطريق أمام البشرية لكى تبنى بعد ذلك فوق افتراضاته الصحيحة، وتتجنب أسباب إخفاق تجربته الرائدة.
وقبل أيام وبمناسبة احتفال فرنسا بمرور 80 عاما على تأسيس الأوركسترا السيمفونى الوطنى، نظم متحف باريس عرضا نادرا، أو بالأحرى غير مسبوق، حيث جرى العزف أمام المئات من الناس على آلات موسيقية يتراوح عمرها ما بين 4500 وعشرة آلاف عام وكلها مصنوعة من الحجر!!
هذه الآلات التى أخرجت لأول وآخر مرة من أماكن حفظها فى المتحف العتيد «كما قال مديره إريك جونتييه»، التى يبلغ عددها 23 قطعة كان اكتشافها بواسطة عسكريين فرنسيين فى أثناء غزواتهم لأقاليم وبلدان فى قارة إفريقيا، خصوصا فى المناطق المتاخمة لجنوب السودان والنيجر وساحل العاج، خضعت لدراسات وأبحاث عديدة انتهت إلى أن الإنسان اكتشف الثراء الجمالى والتعبيرى للموسيقى وعرف أثرها الروحى الرائع وغير المحدود، ومن اخترع الآلات التى تصنعها وتصدح بها مبكرا جدا، وقبل أن يبدأ التاريخ المكتوب للحضارة والتقدم.