(ما لا يدرك كله، لا يترك كله)، بعبارة أخرى: عندماتكتشف أن الطبخةالتي تعتمدعليها لإطعام أسرتك فاسدة، وليس في مقدورك توفير غيرها، فسوف تبذل جهدك لتنقذ الأقل فساداً -ولو كان مقدار ملعقة - حتىتستطيعالبقاءعلىقيدالحياة، إلى أن تتمكن من توفير طعام آخر.
بعبارة أخيرة، ما رأيكم لو اتفقنا – منذ الآن- أن نفكر بـ(القطاعي)، بمنطق تجار التجزئة، نعم: البقالون.
فالكلام بمنطق تجار الجملة لا يصلح لمن يعيشون على فيضالكريم مثلنا، أقصد: المصريين.
بعد عقود طويلة من العشوائية، أصبحت ثروتنا مبعثرة في مليون (تفصيلة)صغيرة، وأي استهانة تعني ضياع جزء -قد يكون حيوياً - من تلك الثروة.
لا حل لنا في مصر الآن سوى (ميزانالبقال)، ولن أقول ميزان الذهب، لأننا في السنين المقبلةمضطرون لغربلة (زبالتنا) أملاً في استخلاص ما قد يصلح؛ فلا داعي للتحسر واستخدام مصطلح ميزان الذهب، يكفينا ميزان البقال؛ فالبقال يدركتماماًأنكلجراميضحي به فيكلعملية،يكلفهكيلوجراماًفينهايةاليوم،ربما يكون هو كل ربحه.
تعالوا نستخدم ميزان البقال في كل أمورنا في الفترة المقبلة، بداية من أكثر المواقف بديهية،وصولاً إلى المواقف المصيرية الكبرى، عندما تلاحظ أن زوجتك ليست فيأناقة زميلتك في العمل، فانتبه إلى أن هذا لا يعني أنك لا تحبها – طبعا زوجتك- بل إنك تتمنى لها الرضا لترضى.
عندماترفض تدخل الجيشفي السياسة، انتبه إلى أن هذا لا ينفي أنه أنقذ مصر مرتين، وانتبه كذلك إلى أنإنقاذه لمصر لا يعني أنه مؤسسة ملائكة أو أنه فوق المساءلة.
عندما تفكر في أن السيسي صاحب موقف تاريخي استعاد به مصر -وربما المنطقة كلها-من مصيرمظلم، فانتبه إلى أن هذا لا يعني بالضرورة أنه قديس، أو صاحب نظرية، أو مفكر عبقري.
وإذا كانت قناعتك أن موقف السيسيذلك –وحده-يكفي لتخليده في ذاكرة التاريخ، فانتبه إلى أن هذا لا يؤهله لرئاسة مصر، وعليه أن يطرح برنامجاً مقنعاً لكي يقبله المصريونرئيساً لهم، وعليه كذلك أن يثبت كفاءة في تنفيذ ذلك البرنامج حتى تكون له فرصة الاستمرار.
منطق البقال،يسمح لنا أن نختلففي التفاصيل دون أن نخسر في النهاية، يجعلنا ندقق في أننا ربما نكون متفقين في 99% من أفكارنا، بينما نتقاتل ونسيل الدماء من أجل 1% قابلة للتعديل والضبط.
منطق البقال يسمح لنا أن نحكم بعين المنطق دون أن نتخلى عن المشاعر الشخصية، نحب ولكن ننتبه، نرفض ونقاتل من أجل تمرير رفضنا، ولكن لا نقتل من يخالفنا. نختلف ونتفق على الأفكار والمواقف وليس على الأشخاص، فالارتباط بالأشخاص سذاجة وطفولة عقلية.
منطق البقال يسمح لنا أن نقول إن (محمد علي) باشا عندما بنى مصر، لم يكن قديساً، إنما كان رجلاً طموحاً - لنفسه ولأسرته ولأولاده- ولكنه كان سبب وجود مصر الحديثة كلها، كذلك فإن الموقف الذي اتخذه السيسي - بغض النظر عن نيته- أعاد مصر منالذين اختطفوها في زحمة (مولد سيدنا الإسلام السياسي).
وقد رحل (محمدعلي) باشا، ومازال بعض تجار الجملة يصفونه بالقاتل والسفاحوالخائن، مستحضرين مذبحة القلعة وقسوته في البطش بالمماليك، وبعض تجار الجملة الآخرون يتحدثون عنه وكأنه (سيدنا) محمد علي، أما البقالونالمتواضعون الذين يتعاملون مع تفاصيل الأشياء، فيعرفون أن محمد علي كان تاجراً ذكياً وضابطاً طموحاً تعامل مع مصر بمنطق (السبوبة) الخاصة، ولكنذلك لا ينفي أنه صنع منها مصر الحديثة، كانت لمحمد علي باشا عيوبه الفاحشة، وأفضاله المدهشة، نزن هذه ونزن تلك، ونقدمه للناس في صورتهالحقيقية، لا هو قديس ولا هو أسطورة.
علينا أن نتخلص من منطق تقديس الأشخاص، وأن نكف عن انتظار الزعماء والأنبياء والمخلّصين.
لا يوجد حاكم صالح وحاكم فاسد، المجتمع وحده هو من يصنع ذلك.