على الرغم من الإمكانيات الكبيرة لمكتبة «الشروق»، فإن ندوة أخيرة أقيمت لى هناك كان تدار بواسطة «مايك» واحد فقط. وكان الحضور كلهم يتعاونون فى توصيل المايك ما بين الجلوس على المنصة وبين ضيوف أصحاب أسئلة فى آخر القاعة. ليس هذا مجالا لتقطيم «الشروق» لا سمح الله، ولكن الموضوع أكثر خطورة، كان المايك يستقر فى يد الضيف فيوجه لى ثلاثة أسئلة دفعة واحدة، وعلى بال ما يقطع المايك طريقه عائدا لى كنت أنسى الأسئلة، فيذكرنى بها الحضور.
ما هذه الذاكرة الرديئة فى هذه السن المبكرة؟ كيف أصبت بهذا الخلل الفاضح، بُحت بالسر لبعض الأصدقاء فاكتشفت أن المشكلة عامة وليست شخصية، ثم سرعان ما صادفت نماذج أكثر تدهورا بين أصدقاء آخرين على «فيسبوك». شهور طويلة وأنا ألاحظ هذا الضعف. أمام أحد برامج التوك شو، أعصر ذهنى لأعرف اسم هذا الضيف، الذى نادرا ما يغيب عن الشاشة، فأفشل. أشاهد فيلما ما، ثم تأتى فقرة الإعلانات، وبعد دقائق أتحدى نفسى لمعرفة ما الفيلم الذى كنت أتابعه قبل أن تبدأ الإعلانات، فأفشل.
مصافحة دافئة وعناق حار لصديق قديم فى الشارع أدير الكلام معاه بـ«حبيبى» و«يا كبير» و«إيه يا عم»، ثم أتذكر اسمه بعد المقابلة بيوم، بينما أنا جالس فى الحمام. أهاتف زوجتى كل خمس دقائق، وأنا فى السوبر ماركت لتساعدنى فى تذكر طلبات البيت «ابقى اكتبهم فى ورقة..
كتبت بس مش عارف الورقة فين».
أين أشيائى؟ سؤالى الذى يتكرر كل يوم فى البيت، بحثا عن أشياء مختلفة «المحفظة، مفاتيح البيت، قلعت الخاتم فين؟ كتاب بدأت فى قراءته، النضارة، شاحن الموبايل، أنا كان عندى جزمة سوده هاف بوت صح؟ ما انت شحتها لفلان، فعلا؟». طول اليوم هناك شعور ما بوجود شىء كان لا بد أن أفعله. هناك مهمة ما، أتذكرها حيث مر الوقت بما يكفى لضياع فرصة القيام بها. أعرف أن بيل جيتس هو مؤسس «مايكروسوفت».. فيه بقى الراجل التانى بتاع «آبل» اسمه إيه؟ أنا عارفه كويس «جيمس كاميرون. لأ جيمس لاست»
، طيب افتح «جوجل» واكتب «مؤسس آبل» يظهر أمامك اسم ستيف جوبز، يشعر الواحد ساعتها بأورجازم ذهنى غير عادى.. ستيف جوبز هاااااح. سعيد صالح كان اسمه إيه فى فيلم «سلام يا صاحبى»؟ الواد اللى كان هاف ديفندر بتاع الزمالك ده اللى شعره منكوش، ابن طنط سلوى جارتنا فى المعادى الطويل ده «قصدك طنط منى؟ أيوه.. هى دى». سعيد صالح كان اسمه «بركوته»
وطنط منى ماعندهاش ولاد. طيب أنا عملت التشهد الأولانى، ولّا دخلت فى الركعة التالته على طول؟ لا أتذكر إن كنت قد أخذت حباية الضغط أم لا، إذا أخذت واحدة «هاهبط»، وإذا اعتبرت نفسى أخذتها وهو ما لم يحدث «هاصدع»، ما بين اختيار «اهبط» ولّا «أصدع» يدخل الواحد فى أجواء التوتر وابتدى «ارجّع». اتصل بفلان المريض اسأل عليه.. حاضر، فلان اتوفى..
هو كان عيان ولّا إيه؟ لعيب الزمالك اسمه عمرو الصفتى.. ى ى ى ى ى، أيوووه الصفتى، ى ى ى. أورجازم جديد يتبعه ضحكة بشرى فى فيلم «وش إجرام». هكذا تسير العملية خلال الفترة الماضية.
لم أدخل بعد فى سن الزهايمر، بل المفاجأة أن الواحد قادر على تذكر تفاصيل تخص أشخاصا هم أنفسهم نسوها، ويسترجع أمام عائلته مشاهد من الطفولة يندهشون من أننى ما زلت أذكرها، كما أننى لا أنسى إهانة أو غلاسة أو سوء ظن مر بالواحد خلال عمره كله، فما سر كل هذا التهنيج؟ الموبايل سبب، كان الواحد فى ما مضى يدرب الذاكرة بحفظ أرقام التليفونات المهمة فى حياته، استبدل الواحد بذاكرته ذاكرة الموبايل. من المستحيل أن تنجح بالاتصال بأحد إذا ما انتهى الشحن أو اتحرقت بوردة الجهاز. السنوات الثلاث الماضية سبب بكل ما فيها من توتر وقلق وحماس، يعقبه إحباط وأمل سرعان ما يبدو سرابا.
ثورتان وانتخابات وقتلى ومصابون ومعتقلون وأصدقاء رحلوا وآخرون خذلوك، ورموز انهارت وأنصاف رموز قامت، بإخوان بسلفيين باشتراكيين ثوريين بعسكر، كل هذا صعب أن يستوعبه المخ البشرى فى ثلاث سنوات. بخلاف كميات الغاز التى استنشقناها جميعا، والتى لا بد أنها أتلفت بعض فصوص المخ، أو صلبت شرايينه أو سيحت تلافيفه، بخلاف نوبات الهلع التى نتعرض لها يوميا عبر الإعلام، فهناك دائما من يبث فيك الخوف «هنفلس، مافيش بنزين، مؤامرة، تفجيرات، مواجهات على الهواء، باقولك أيام سوده».
الخوف يطرد من الذاكرة ملفات كثيرة ليأخذ هو مكانه. طبيعى أن يحذف المخ أمورا أقل أهمية مقارنة بخوفك على أولادك أو مستقبلك.
منذ عامين كنت أجلس إلى جوار عم أحمد فؤاد نجم، أريد أن ألقى عليه قصيدة جديدة كتبتها، لكنه كان منهمكا فى حل الكلمات المتقاطعة فى جريدة «الجمهورية». ظللت أنتظره حتى مللت، فقلت له «إيه اللى انت مضيع وقتك فيه ده يا عم أحمد؟»، فقال لى عندما تصل إلى سنى ستعرف قيمة الكلمات المتقاطعة، فهى أفضل تدريب ينشط خلايا الذاكرة.
وصلت إلى سن عم أحمد إكلينيكيا وبتّ الآن أفتش عن الكلمات المتقاطعة لأعالج النسيان. ربنا يديك الصحة يا عم أحمد ويطول لنا فى عمرك.