من أيام قليلة فجر المجرمون أتباع عصابة إخوان الشياطين ثلاث قنابل كانوا ذرعوها بجوار سور كلية الهندسة جامعة القاهرة فسقط شهيد من رجال الشرطة (العميد طارق المرجاوى) وأصيب 6 آخرون بجروح متفاوتة الخطورة.. ورغم أن سور كلية الهندسة يلتصق تماما بسور حديقة الحيوان العتيدة التى يقطنها آلاف الحيوانات والطيور المسالمة أو المستسلمة للأسر، ومع ذلك فإن أحدا لم يهتم بهذه الكائنات المسكينة التى شاءت أقدارها التعيسة أن تكون شاهدا على هذا الإجرام الرهيب والمتفوق فى الخسة والسفالة.
لقد وجد العبد لله كاتب هذه السطور نفسه مشغولا بهذه الحيوانات والطيور، وكيف كانت مشاعرها عندما سمعت دوى الانفجارات الثلاث التى مزقت بقسوة مرعبة أجواء السكون الطيب المخيم على حياتها فى الحديقة، وكيف حالها الآن بعد هذه الصدمة الشعورية الخطيرة..
وبينما أنا تحت تأثير هذا الانشغال تذكرت شيئا كتبته ونشرته فى هذه الزاوية من شهور قليلة تعليقا على خبر مفاده أن إحدى الظرافات الأسيرة فى حديقتنا التاريخية الرائعة ربما دفعها الاكتئاب إلى الانتحار، هذا الخبر دفعنى وقتها إلى البحث والتنقيب عن أسباب تفاقم اكتئاب الظرافة إلى الحد الذى دفعها للخلاص من الحياة، وقد عثرت فى مخيلتى على الصفحة الأخيرة من مذكرات الفقيدة التى سأعيد نشر نصها ابتداء من السطر التالى: لا جديد.. فقد صحوت اليوم أيضا مذعورة على الضجيج المقرف نفسه الذى يقتحمنا آتيا من خارج أسوار هذا «البارك» البائس (تقصد حديقة حيوان الجيزة)،
وصار طقسا شبه ثابت من طقوس عيشتى السوداء هنا منذ أتيت مخفورة أسيرة من موطنى الأصلى قبل عام ونصف العام.. صحيح تبدو أيامى الحالية أقل سوءا من أيام أخرى مضت كانت الحياة فيها جحيما وعذابا لا يمكن وصفه (راجع الصفحات التى كتبتها فى يوليو الماضى فى ذكرى مرور عام على وجودى فى الأسر)، لكنى الآن لست أعرف بالضبط سبب هذا الثقل الرهيب الذى استيقظت فى الصباح، وشعرت به راقدا جاثما على صدرى كجلمود صَخر حَطَّه السَّيلُ من علٍ.. باختصار، أنا النهاردة كئيبة ومكتئبة وتعيسة جدا أكثر من أى وقت مضى.
هذه الكآبة يبدو أن مظاهرها على وجهى واضحة ومفضوحة تماما، حتى إن كل من صادفتهم اليوم من زملائى سكان «البارك» سارع بسؤالى: خير يا «روكا» كفا الله الشر، مالك النهاردة وشك لونه أصفر ومخطوف قوى كده ليه؟! لكنى من فرط التعب والإرهاق النفسى لم أرد على أحد، فقط صديقتى الأنتيم «لولا»
رفيقة رحلتى فى الأسر استطاعت أن تنتزع منى كلمات قليلة بعدما ألحت فى السؤال نفسه، فاضطررت أن أقول لها بنبرة لم أقو على تنظيفها من الحزن: لأ مفيش حاجة أعصابى تعبانة شوية بس، وإن شاء الله أروق دلوقتى.. اطمنى يا حبيبتى، أنا بخير والحمد لله.. غير أن «لولا» بدافع من طيبتها ورقتها ما أن أنهيت هذه العبارة حتى اندفعت كالعادة تهلفط وتثرثر بمداعباتها الساذجة وهزارها اللطيف وانتقلت بسرعة إلى هوايتها المفضلة، وراحت تصب فى أذنى سيلا من النكات البايخة، وبدأت بالنكتة القديمة الوحيدة التى تضحكنى
(سمعتها منها ألف مرة على الأقل)، إذ قالت وكأنها تزف لى خبرا لا يعرفه أحد سواها: سمعتى حادثة الحمار الوحشى اللى كان ماشى يتبختر مختالا فى صحراء قفر جرداء فإذا بـ«بلكونة» تقع فجأة على رأس أمه؟! ابتسمت ابتسامة اضطرارية تبددت فورا تاركة خلفها وجعا وألما شديدين شعرت بهما ينهشان عضلات صدغى ووجهى كله، وعادت رأسى غصبا عنى إلى وضعها السابق مدلدلة منكسة وتكاد من حدة ميلها نحو الأرض أن تكسر عنقى الطويل الممشوق الذى لطالما حطم وسحق قلوب أعتى وأقوى ذكور الغابة..
ومع ذلك بقيت «لولا» تجاهد لإضحاكى من دون جدوى، لكنها أخيرا يأست وبدا أن شيئا من قنوطى واكتئابى أصابها فتوقفت عن التنكيت وطفقت تقول: «روكا» حبيبتى أنا عارفة إننا نحيا فى الأسر حياة صعبة وقاسية جدا، وممكن كمان تقولى إنها قذرة ومقرفة، لكن هذا هو قدرنا الذى لا فكاك منه، ولازم نتحمل، وآهى أيام بنقضيها فى الدنيا وخلاص، لأنه لا بديل ولا مهرب إلا أن ننتحر، ونموت كفارا والعياذ بالله..
إنتى طبعا مؤمنة وعارفة إن المولى تعالى رحيم بمخلوقاته، ونصيحتى لك يا أختاه أنكِ لما تشتد عليكى وطأة المعاناة تذكرى الأيام والأسابيع السوداء التى عشناها هنا فى الصيف الماضى عندما كانت قطعان الهمج والكائنات الشيطانية تستوطن المنطقة المحيطة بهذا «البارك» (تشير إلى بؤرة العفن والإجرام التى نصبتها عصابة الشر وتوابعها القتلة فى محيط جامعة القاهرة)، هذه المحنة انتهت وكنا نظنها لن تنتهى أبدا.. دلوقتى أظن أن الحالة أهون وأخف كثيرا، يعنى شوية ضجيج ودوشة وملوثات سمعية وبصرية، وشوية غازات مسيلة للدموع وخلاص.. على فكرة أنا يظهر أدمنت شم هذه الغازات، وبقيت «شمامة».. اضحكى يا روكا بقى ما تبقيش «غلسة».
هكذا أنهت «لولا» كلامها، وأعترف أننى حاولت أن ألبى طلبها وأضحك، لكنى رغما عنى بكيت بحرقة وتركتها مهرولة وانزويت لكى أكتب هذه السطور... (عند هذا الموضع انتهت اليوميات).