قدمت جماعة «الإخوان» نفسها، على مدى أكثر من ثمانية قرون، باعتبارها مؤمنة بالعمل السلمى المعتمد على الدعوة والإقناع، والمنبت الصلة بالعنف والإكراه، وراغبة فى الحوار والشراكة مع غيرها من التيارات، وبعيدة عن المغالاة والمغالبة.
ورغم أنها لم تطرح ما يمكن اعتباره منهجاً واضحا يمثل قطيعة معرفية مع من رفعوا لواء «الجهاد» فى مواجهة المسلمين وشركاء الوطن منذ سبعينيات القرن الماضى، ولجأوا إلى العنف، ومارسوا الإرهاب، فقد حرصت على تمييز نفسها عنهم، باعتبارها ممثلة للاعتدال فى مواجهة تطرف من يحملون السلاح. ولكن مفهوم الاعتدال الذى أصبح مقترناً بتيارات الإسلام السياسى وحركاتهم، وليس فقط بجماعة «الإخوان»، ظل أقرب إلى شعار عام منه إلى فكرة تقوم على رؤية واضحة لمحدداته وأسسه ومنهجه والخط الذى يفصله معرفياً وفكرياً وسياسياً عن العنف الذى لم يخل تاريخ هذه التيارات، وبخاصة جماعة «الإخوان»، منه.
واقترن مفهوم الاعتدال، أو شعاره، على هذا النحو بفكرة الوسطية الإسلامية التى أُعيد إنتاجها، من دون بلورتها وتحديد مضمونها أو حتى معناها فى العصر الراهن. ولذلك ظلت فكرة الوسطية، مثلها مثل الاعتدال، أقرب إلى شعار عام.
غير أن ما ينبغى الانتباه إليه هو أن الحاجة إلى وجود تيارات معتدلة فى ساحة الإسلام السياسى وأفكار إسلامية وسطية لم تكن مقصورة فقط على التيارات التى وُصفت بالاعتدال. كانت الحاجة إلى إسلام سياسى معتدل ووسطى قائمة أيضاً لدى قطاع من الباحثين والأكاديميين، وأجنحة فى التيارات المدنية الليبرالية والقومية العربية واليسارية، اعتقاداً فى أن وجوده يساعد فى إزالة أو على الأقل تخفيف أحد أهم المخاوف التى ظلت تعترض طريق التطور الديمقراطى فى مصر ودول عربية أخرى، وهو وصول حركات إسلامية سياسية إلى السلطة، عبر هذا الطريق ثم غلقه بضبة ومفتاح. ولذلك كان الجدل حول ما إذا كانت مرجعيات تيارات الإسلام السياسى التى وُصفت بالاعتدال وبنياتها التنظيمية المغلقة تسمح بأن تصبح جزءاً من عملية ديمقراطية مفتوحة يحدث فيها تداول على السلطة إحدى أهم القضايا التى شغلت الحيز العام فى مصر وبلاد عربية عدة منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضى.
كانت مواجهة إرهاب الحركات الإسلامية التى رفعت لواء «الجهاد» ولجأت إلى العنف سبباً ثانياً للحاجة إلى تيارات إسلامية سياسية معتدلة اعتقاداً فى أن وجودها يساهم فى إضعاف نزعات التطرف التى تُنتج عنفاً وإرهاباً تأسيساً على المنطق البسيط الذى يقضى بأنه إذا زادت مساحة فكرة ما تناقصت بالتالى مساحة نقيضتها. ولما كان الاعتدال والتطرف نقيضين بدا أن ازدياد حضور أحدهما لا بد أن يكون على حساب الآخر.
كان نظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك بدوره بحاجة إلى جماعة «الإخوان»، ولكن ليس لاقتناعه باعتدالها، بل لتكون فزّاعة يستخدمها لتبرير رفضه أى إصلاح سياسى، وتسويق الخوف من أنها هى البديل فى حالة تغييره سعياً للاستمرار فى السلطة بلا حدود.
وإذا أردنا قاسماً مشتركاً يجمع سعى «الإخوان» لتسويق فكرة اعتدالها، وتنظير باحثين وسياسيين ومثقفين لهذا الاعتدال، باعتباره ضرورة للتطور الديمقراطى الذى كان منشوداً، فى ظل نظام مبارك، وتفاهمات هذا النظام التحتية مع الجماعة التى زعمت أنها معتدلة، مما أتاح لها أن تتمدد، وتتغلغل فى المجتمع- فهو الحاجة لاختراع إسلام سياسى معتدل لأسباب مختلفة بالنسبة إلى كل من هذه الأطراف الثلاثة.
ولما كانت الحاجة هى أم الاختراع، فى كل مجال وليس فقط فى العلم والتكنولوجيا، فقد دفعت هذه الحاجة إلى اختراع فكرة الإسلام السياسى المعتدل التى لم تخترعها جماعة «الإخوان» وحدها، ولكنها استثمرتها إلى أقصى مدى. غير أنه لم يكن ممكناً أن تنجح فى تسويق نفسها بوصفها التعبير الرئيسى عن تلك الفكرة المخترعة إلا لكون مصالح نظم حكم عربية عدة، وليس فقط نظام مبارك، جعلتها فى حاجة إلى هذا الاختراع.
كما أن وجود جماعات إسلام سياسى قوية، وفى مقدمتها جماعة «الإخوان» فى مصر، دفع قطاعاً واسعاً من الحالمين بالديمقراطية إلى التعامل معها بوصفها معتدلة وبذل بعضهم جهوداً كبيرة فى سعيهم إلى تطوير مواقفها لتنسجم مع هذا الوصف.
أما وأنه قد ثبت أن هذا الاعتدال لم يكن سوى اختراع، فقد صار ضروريا مراجعة الأفكار والأطروحات والمواقف التى اخترعته منذ ثلاثينيات القرن الماضى، خاصة فى الفترة من منتصف ثمانينياته إلى نهاية العقد الأول فى القرن الحالى.