أصبح عماد يخشى الصعود إلى شقته فى الطابق السابع بإحدى البنايات القديمة مستخدما الأسانسير، هو قادر على التكيف مع أعراض الذبحة الصدرية الملازمة لصعود السلم، ولا يعرف سبيلا للتكيف مع عدة أمراض نفسية مركبة، وأكثر من فوبيا شائعة هاجمته واكتشفها بعد أن تعطل به المصعد أكثر من مرة نتيجة انقطاع الكهرباء.
الخوف من أن يلمسك شخص مجهول تحديدا فى الظلام، وكان عماد متأكدا أن سعيد البواب كان مثارا جنسيا لحظة انقطاع الكهرباء عليهما فى المصعد، وارتطامه به، فليس طبيعيا أن يكون هذا هو العادى بتاعه.
خوفه من انقطاع شبكة الهاتف المحمول، كان عماد قد غير شبكة المحمول التى يستخدمها عدة مرات، لأنه فى كل مرة يفشل فى الاتصال بأحد لينقذه. الخوف من أن ينساك الناس أو يفقدوا اهتمامهم بك، كان عماد قد أخبر مدام منال أنه «بيركن وطالع»، ولم تفكر مدام منال خلال ثلاث ساعات مرت بعد هذا التصريح دون ظهور لزوجها أن تهتم بالأمر، ولو على سبيل تاخد منه العربية تركنها. ثلاث ساعات دون أن يهتم أحد بغياب عماد، كانت نقطة تحول فى حياته.
الخوف من الجاذبية الأرضية بما تمثله من تماسّ مع فكرة السقوط من أعلى، فى إحدى المرات كانت الكهرباء تعود لثوان ثم تنقطع، ثم تعود، وهكذا، خلال هذه المرات كان المصعد يهبط بعماد بقوة، ثم يرتج فيقف مكانه، ثم يهبط عدة مرات متتالية، إلى أن ظل يتوقع انقطاع حبل المصعد واستقراره فى القاع.
الخوف من الذكريات التى تهاجمك دون مقدمات، كان الظلام يجبر عماد على تذكر سنوات زواجه من منال، وفى كل مرة كان يتفهم لماذا كانت أمه تقول عنه إنه أهبل ومتدهول على عينه.
فوبيا الظلام، وتغلب عليها قليلا بأن يضع فى جيبه دائما ولاعة حديثة. فوبيا الحريق، وهى التى أصابته بعد أن مسكت الولاعة فى جلباب سعيد البواب.. ربما هذا ما يفسر سر شعور البواب سعيد بالإثارة سالفة الذكر.
السلم ليس سهلا، فالعمارات القديمة مبنية «من وسع»، والأسقف العالية جعلت السلالم بالتبعية عالية، وتفكك سكان عمارة قديمة نصف شققها مهجورة ومغلقة على ذكريات وعفش قديم لعائلات استقر أولادها خارج مصر، جعل عملية شراء مولد كهربائى صعبة، عماد لا يتهم السيسى فقد سبق له أن اتهم مرسى دون أن يغير ذلك شيئا إلا مرسى نفسه.
لكنه يلعن برامج التليفزيون بضيوفها والمحطات الكثيرة بهذيانها، التى تسحب كل هذه الطاقة، يلعن عشرات الأكشاك التى افتتحت كلها خلسة فى شارع واحد سارقة كهرباء عمومية، يلعن عشرات ملايين شواحن الموبايلات واللاب توب التى لا ينزعها أصحابها من الفيشة من لحظة استلام الجهاز، يلعن ملايين أجهزة الميكروويف التى جعلت البيوت تأكل طعاما ممسوخا يشبه الورق المقوى، فى سبيل أن تشعر مدام منال وجيلها بالراحة.
يفكر لماذا لم تكن الكهرباء تنقطع أيام مبارك، رغم أن الدولة كانت تفرط فى استخدامها بشراهة فى معامل مباحث أمن الدولة، يفكر أن دعوة مرشح الرئاسة للاستيقاظ فى الخامسة فجرا لها هدف خفى، وهو أن تنام الناس مبكرا، من ثم يتم تخفيف الأحمال الكهربائية. فكر أن عبد الناصر لم يطلب يوما شيئا من الشعب بل إنه كان يسعى لراحتهم «هناك سد عالى فاسهروا أو قوموا ناموا انتو يا أولاد.. براحتكم». فكر أن يستغل الظلام، أن يتعشى مع مدام منال على أضواء الشموع مثلا، ولكن مدام منال تبدو مخيفة بشكل غير طبيعى فى ضوء الشموع، خصوصا عندما يتراقص ظل بومبيه شعرها على الحائط بشكل أكثر من حجمه. فكر فى أن يتعلم القراءة بطريقة برايل، ليستفيد من الوقت المهدر فى المعرفة. فكر أن يطلب من ورثة صاحب العمارة أن يأخذوا شقة السابع ويعطوه شقة الدور الأرضى، ولكن مدام منال رفضت، لأن الحاجة سهير الراقصة المعتزلة اتقتلت فيها. فكر أن البلد فى مشكلة كبيرة غير مفهومة، كل بلد فى العالم لديه كشك كهرباء، وكان عماد كله يقين أن فيه حد بيجيب ستات فى كشك كهرباء الوطن.
يسكن الأستاذ عماد فى العمارة المقابلة لى، واليوم عدت فوجدت زحاما تحتها، كان أستاذ عماد يقف فى الشباك ممسكا بميكروفون الباعة الجائلين، وهو يفقع موالا شعبيا، بينما السكينة على رقبة مدام منال «السجن لو كان جنينة والشجر سجان.. من لوعة الضلمة يبقى أضيق من الفنجان».