يا رب هل يرضيك هذا الظمأ، والماء ينساب أمامي زلال؟
كان صوت أم كلثوم يملأ جنبات المقهي بمعاني عمر الخيام وكلمات أحمد رامي، وسط «طرقعات قواشيط الطاولة، وكركرة النرجيلة، واحتكاك أحجار الدومينو»، وفجأة زعق أحد الزبائن لصاحب المقهى «اقفل الكفر ده مش ناقصين ...»، واعترض زميله وهو يوبخه ويشتمه ببذاءة، والزاعق يبادله الشتائم بأفظع منها، حتى وصلت الملاسنة بينهما إلى السب بالأم والدين معا «انت ابن دين .....».
كانت أم كلثوم تغني في هذه اللحظة: «يا من يحار الفهم في قدرتك وتطلب النفس حمى طاعـتك».
آآآآآآآه... الحيرة، وعدم الفهم، واختلاط الحقائق والمواقف!!.
كان التناقض في المشهد كافيا لاستغراقي في حالة عميقة من التأمل، وقلت في سري كم أنت مسكين أيها الإنسان؟، كم أنت جاهل وناقص ومتناقض.. يسكن أعماقك خوف دفين من الله القادر، فتجاهر بالدفاع عنه بصوتك أمام أصحابك، ويسكن أعماقك أيضا رغبة في القوة والتفوق والتميز وسط أصحابك، وقد تتمادى في هذه الرغبة حتى تتجاسر على الله والدين!.. تكثر الحمد، ولما يقرصك جوع أو ظلم قد تسأل مستنكرا: ليه كده يا رب؟
حتى باتت هذه التصرفات في الشارع طبيعية، ففي أكثر مدن العالم احتواء للمساجد والمآذن ينتشر سب الدين علنا في الشوارع، ويخرج «الأكثر حماسا للدفاع عن الإسلام» بعد سماعهم القرآن وصلاتهم الجمعة، ليحرقوا كام سيارة، وينشروا الفزع حيث يسيرون، ويفرحوا بـ«هاشتاج» يتضمن تنابزا، ويتوسعوا في بذاءة اللفظ والفعل وعبارات التهديد والوعيد بعد ساعة واحدة من الخشوع والتسبيح وخطبة الجمعة عن سماحة الإسلام!
تناقض محير فعلا يذكرني بقول الحلاج في طاسين الصفاء: «الحقيقُة دقيقةُ، طرقها مضيقةُ، فيها نيرانٌ شهيقةُ، ودونها مفازةٌ عميقةُ»، والأصعب من ذلك ما يقوله في طاسين الفهم من أن: «أفهامُ الخلائقِ لا تتعلَّق بالحقيقة، والحقيقة لا تتعلَّق بالخليقة: لذلك كما يقول: «لا تصل علائقُ الخلائقِ إلى الحقائق»، ولا توجد معرفة قاطعة حقة، ودربُ التواصل مغلق بالمستحيل، لأن المعارف الإلهية تتجلى دائما في مرايا النفوس، وهذا يؤدي عادة إلى تفاوت الإدراك، ولا علاج لهذه «الحيرة» إلا بالزهد والفناء، لأن الغياب هو النهاية الحتمية لطريق المعرفة.
ويبدو أن سلوك العامة مثل السمك في البحار (موجود ولكن يصعب إمساكه) لذلك لا ينشغل به إلا الصيادون، أما الناس فيفضلونه جاهزا على المائدة، وهكذا لا يبالون بمظاهر الخروج اليومي عن الدين في الشارع، ويهتمون بالقضايا الجاهزة التي يصطادها المحترفون من مشهد في فيلم، أو جملة في رواية، أو لوحة عارية، ويضعون عليها السعر: (قُتل هذا المفكر، أو طُعن هذا الروائي، أو حُبس، أو جُلد، أو نُفي، أو.. لدخول الجنة دفاعا عن الدين).
المحير أكثر أن الحلاج نفسه لم يخطّئ قاتل فرج فودة، أو طاعن نجيب محفوظ، أو مضطهد نصر أبو زيد، أو مطارد وحابس ومعزر آخرين، وحتى لم يخطئ قتلته، فقد ورد أنه ناجى ربه قبل أيام مقتله: يا رب هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلى تعصُّبا لدينك وتقرُّباً إليك، فاغفر لهم . فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي، لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عنى ما سترت عنهم، لما لقيتُ مالقيت».
هكذا تبدو لي القضية في فضاء ديننا العظيم، أن ألتمس العذر لقاتلي، وأختمل ما جنيته دون تفكير في النيل من الآخر تكفيرا أو تحقيرا، فالحلاج فعل وقال، ثم تحمل صابرا نتيجة ما فعل وقال دون أن يرجم قاتليه بالكفر، بل إن أستاذه الشيخ الجنيد أرسل له عتابا وهو مقيد بالأغلال لحظة مقتله على الصليب، قال فيه «إنك أفشيت أسرار الربوبية فأذاقك طعم الحديد»، وقال صديقه الشيخ أبو بكر الشبلي «كنت أنا والحلاج شيئا واحدا غير أنه تكلم وسكتُّ أنا»، وروي عن الشبلي من وجه آخر أنه قال، وقد رأى الحلاج مصلوبا: ألم أنهك عن العالمين؟
المأساة الدنيوية ليست إذن فيما نعتقد، ولكن فيما نقول ونعلن ونروج، فالاعتقاد علاقة بين العبد وربه حسابها عند الله، والإشهار والترويج فعل اجتماعي حسابه عند الناس والدولة وقوانينها.
وقد وصلتني رسالة من الأستاذ أحمد عبدالتواب، مقدم البلاغ، ضد كرم صابر، سرد فيها تفاصيل كثيرة عن القضية، لكن أهم ما توقفت عنده، أن المشكلة لم تكن لولا أن المؤلف لم يكتف بالتأليف، بل سعى لتوزيع كتابه في قرية، واجتذاب الناس لفكره، وهذا من حقه طبعا، لكن عليه أن يتحمل نتائج ذلك بمقدار صدمة الوعي التي تحدثها أفكاره للمجتمع الذي يدعو فيه، وبصرف النظر عن صحة أفكاره أو خطئها إلا أنني أتحدث عن شروط التفاعل والتغيير ومدى الاحتكاك والحرارة الناجمة عن هذا التفاعل، وحتى الانفجار قد يكون نتيجة مقصودة أو غير مقصودة لمثل هذه التفاعلات.
ولذلك لا أحبذ النظر لقضية كرم صابر أو غيره من المبدعين والمفكرين، باعتبارها قضية صراع بين الدين والإبداع، لكنها قضية صراع اجتماعي، وخلاف حول قيم دنيوية يمكن أن نناقشها لأننا نستطيع أن ندعي فهمها، وندعي أنها تؤثر في حياتنا، أما مسار التكفير فإنه لا يخصنا ولا نستطيع أن نسرق حق الله في الحساب ومعرفة من فينا الأكثر تدينا أو قربا من خالقه، فقد يظن أحمد أن كرم أبعد منه عن الدين وهو عند الله أقرب، وطبعا لا يستطيع أحمد ولا كرم ولا سيدنا أبو بكر، رضي الله عنه، أن يضمن الجنة لنفسه حتى لو كان قد وضع فيها قدما، وهذا يعيدنا إلى الحيرة التي بلورتها الصوفية باعتبارها «حالة» من الوجد.. يسمونها أحيانا «السكر»، وأحيانا «الانجذاب»، وأحيانا «الدروشة».. إلخ، لكنها مهما تنوعت الأسماء «حالة» تستلذ الحيرة وتتمحور حولها كما يناجي ابن الفارض ربه في مطلع قصيدته الصوفية الشهيرة: «زدنى بفرط الحب فيك تحيُّرا»، والتي يقترب فيها من موضوعنا عن مشروعية سؤال «أين الله؟» فيقول: وإذا سألُتكَ أن أراكَ حقيقةً .. فاسمَحْ ولا تجعلْ جوابي لن تَرى».
هكذا يبدو من مناجاة نبي الله داود في المزامير، ومن الحديث القدسي عن صفات «العبد الرباني» الذي قد يستحق بعضا مما اختصه الله لنفسه «يقول للشيء كن فيكون»، أو من أدعية كثيرة لرسولنا الكريم، أو من سلوكيات التدين الشعبي التي تستهدف التقرب من الله، ولا تستهدف إنكاره أو التقليل من عظمته (والعياذ بالله)، وهذا موضوع طويل مثير لحيرة أكبر، يدرجه المستشرقون وبعض مثققينا تحت عنوان «الدين الشعبي» أو «الإسلام الشعبي»، وهو فرع من الدراسات الأنثربولوجية يهتم بدراسة امتزاج الدين بالعادات والتقاليد وطقوس قديمة وممارسات اجتماعية وتاريخية، بحيث يصبح هناك «إسلام مصري» و«إسلام أفغاني» أو «أمريكي»، حسب المجتمع، وليس فقط حسب المذاهب أو المدارس!
وفي هذه الدراسات تنفجر في وجهنا أسئلة أكثر خطورة وحيرة مما تتضمنه رواية أو قصة محدودة التوزيع، فالباحث إدوارد فسترمارك مثلا يؤكد في نتائج دراسة ميدانية مهمة أن الأديان لا تقضي على بعضها البعض وإنما يحدث نوع من التراكم الجيولوجي، فيظل الدين القديم حيا بدرجة ما، جنبا إلى جنب مع الدين الجديد، ويضر مثلا بوجود طقوس وثنية ليست في المسيحية فقط ولكن فيما يسميه «الإسلام الشعبي» لأنها طقوس قد تتعلق بالأفراح والموت وطرق الدفن وعادات اجتماعية أخرى ولا يتم ربطها عادة بجوهر الدين، مثل «أربعين الميت عند المصريين»، ووضع ملح وخبز وضوء للميت في المقابر الجديدة، وهي عادات فرعونية قديمة، ولسنا في محل عرض لهذه المظاهر، لكنني أشير فقط إلى أنها ظلت موجودة دون تعارض مع الدين، حتى حدث نوع من الضعف في مجتمعنا، وسادت فيه قيم ومفاهيم وعادات مستوردة من مجتمعات أخرى، ما أدى إلى تعارض ما بين حياتنا وديننا، فالقبطي اعتمد العرب المسيحي مرجعية له، وبدا أن التفدم بالنسبة له أن يعير حتى أسماء الأبناء إلى النمط الأوروبي، فصرنا نتجنب بطرس ونسميه بيتر، والمسلم استسلم للهجمة الوهابية والأفعانية، والمودودية، وصار يهاجم عاداته الاجتماعية ويصفها بأنها «بدع»، مع أن قطاعات شعبية واسعة ما زالت تجمع بين جماعية صلاة الجمعة، وجماعية الاحتفال بموالد الأولياء، والتبرك بهم، وبالتالي لم يعد «الإسلام الشعبي» هو الوجه الآخر المكمل والمتصالح مع «الإسلام النصي» أو «الرسمي» كما أرماندو سلفاتوري، بل حدث نوع من التصادم والتعارض، وهذا ما أعتبره جوهر الأزمة التي تتفاقم بلا عقل بين مفهوم الدين الفاعل السمح والذي لخصه رسولنا الكريم في كلمة واحدة «المعاملة»، وبين مفهوم التعصب لمنظومة تعليمات يزايد بها مسلم على مسلم، بل أستغقر الله العظيم صار هناك من يتزيدون بها على الله بذاته جل وتعالى، مع أن الأديان السماوية نزلت بالأساس لتحقيق مصلحة الإنسان، وليس لقهره أو التضييق عليه، وهناك قاعدة فقهية تقول: «حيث مصالح الناس، ثمة شرع الله».
فلماذا لا نعمم إسلام الرحمة والصفح والاجتهاد و«اختلافهم رحمة»، ونجعل من حياتنا ساحة لمعارك أظن أنها ستنتهي بمجرد أن نغمض أعيننا عنها لا أكثر، فأغلقوا قضية كرم صابر ومثل هذه القضايا، وانتبهوا للمشترك بينكم وهو رفع الظلم عن الفلاحين، والسعي لتحقيق العدل، ساعتها سيلتقي أحمد وكرم على الخير بدلا من التراشق في الصحف، والتحريض في القرى، وإهدار العمر في الصراع على «حكم» هو من شأن الله الحسيب العليم.