كما تلاحظ حضرتك، فقد تبوَّأ مصطلح «الدولة العميقة» مكانة متميزة جدًّا فى ثقافة الثرثرة الببغاوية الغبية التى تفجر ضجيجها على نحو هائل منذ هدأ غبار ثورة 25 يناير، وما زال مستمرًّا حتى ساعة تاريخه.
ولأن طائر الببغاء خلقه فاطرُ السموات والأرض على خِلقة وسمات معينة، أشهرها القدرة على تقليد ومحاكاة الأنغام الصوتية التى يتكرر طرقها لمسامعه، فهو لا يتحدث ولا يقول كلامًا يفقه معناه وله وظيفة تعبيرية مثلما يفعل بنو البشر، وإنما هو «يصوصو» بما يسمعه فحسب.
غير أن بعض البشر قد يصيبهم داء «الصوصوة» وتقليد الببغاء فيتخلون عن نعمة العقل الممنوحة لهم من دون سائرخلق الله، ومن ثم تراهم يلتقطون من على قارعة الطريق ألفاظًا ومصطلحات تعجبهم موسيقاها أو يروقهم شىءٌ من حزلقتها فيتوهمون أن ترديدها والتفوُّه بها «عمَّال على بطَّال» ربما يضفى عليهم نوعًا من الأناقة والشياكة تحجب حقيقة جهلهم وغباوتهم وبؤس تعليمهم وانحطاط قدرتهم على التفكير والتأمل فى ما يشاهدونه من مظاهر ومشكلات ومحاولة تفكيكها وتحليلها وفهم الأسباب الواقعية التى أنتجتها، كما أن ظلمات الجهالة الكابسة بثقلها على رؤوسهم الفارغة تزين لهم أن مجرد حفظ ونطق لفظ معين سمعوه بالصدفة هنا أو هناك، وتكرار التلفظ به بإلحاح ولجاجة (وغلاسة أحيانا) كفيل بحل مشكلتهم التعليمية وإنهاء المهمة بسهولة وسلام عقلى تام من أى تفكير ومن دون أن يتجشم الواحد منهم عناء تشغيل دماغه المعطلة من يوم ما اتولد واكتحلت عيونه «المعمصة» بنور الدنيا.
إذن الست «الدولة العميقة» التى هى الآن «لبانة» يلوكها بعضهم ويتناقلونها من لسان إلى لسان بخفة وبلاهة وبغير اكتراث ولا معرفة بمفهومها ومدى توافر شروط انطباق معناها (المجهول عند أغلبهم) على حال الدولة المصرية الآن، فهذه الأخيرة تعانى فعلًا من أعراض ومشكلات عويصة وقاسية، ليس من بينها «العمق» وإنما شىء آخر «سطحى» جدًّا وظاهر للعيان ومفضوح تمامًا.
غير أن ببغاواتنا على غباوتهم، يخاصمون الحياة ويتعالون فوق زخمها ويرتاحون لحالة الحبس الإرادى خلف أسوار الادعاء الكاذب والثقافة السمعية، فإذا بلغهم خبر ظاهرة سياسية أو حالة مجتمعية لا يفهمونها فإن أيسر الأفعال عندهم هو استدعاء لفظ من هنا و«قفش» اصطلاح من هناك وخلاص.. ثم يهرولون عائدين فورًا للاستمتاع بالنوم «العميق» اللذيذ فى زنازين تفاهتهم العقلية وعزلتهم عن الناس.. لكى لا أقول احتقارهم.
ولأن هؤلاء الببغاوات المتأنقة بعزلتها يحتقرون التفكير والتعليم والثقافة، فقد شغلوا أنفسهم جدًّا بوهم «الدولة العميقة» وتركوا حقيقة وجود مجتمع حى، و«شعب عميق» مثقل بالهموم والمعاناة من كل نوع، لكنه فى «العمق» يحتفظ بمخزون هائل من الخبرة والوعى الفطرى المرهف و«العميق»، اكتسبه وراكمه عبر مسيرته الحضارية الطويلة والضاربة فى أحشاء الزمن والتاريخ، وكذلك تجواله وتقلبه ما بين الازدهار والتقدم والانكسار والتأخر.
باختصار، هذا «الشعب العميق» عنده «السر» الذى لن يفهمه أو يفك طلاسمه هؤلاء الذين هجروا نعمة العقل واستسهلوا نشل خاصية الثرثرة و«الصوصوة» من طائر الببغاء المسكين، وراحوا يهرفون بما لا يعرفون.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.