مازلت أذكره كما عرفته دائما، طويل القامة، رياضى الجسم، معتدل القوام. وخط الشيب شعر رأسه الذى بدأ يخف قليلا فى الإمام. لكنه لم ينل من جاذبيته الخارقة. نعم. ما زلت بعد كل هذه السنين اعتبر السيد «قاسم» أوسم رجل شاهدته فى حياتى. وكانت له عينان خضراوتان باسمتان، وبشرة فيها تورد ووضاءة، وكان فوق ذلك رجلا ودودا، لطيف المعشر. وبرغم أننى لم أكن أكثر من مجرد طفل، فقد كان يمنحنى وجهه كله حين أحدثه، على رفعة مقامه وأهمية منصبه. وكان معروفا فى أوساط العمل أنه رجل طموح يهدف إلى تولى أرفع المناصب. وقد ساعده على ذلك بشاشة طبعه ووسامته المبهرة وثراء موروث أتاح له إقامة المآدب الفاخرة على شرف رؤسائه، بل وتقديم الهدايا القيمة التى لم تصل لحد الرشوة.
بيد أن الأقربين منه كانوا يعلمون أن خلف هذا الطبع الودود والعينين الباسمتين توجد شخصية أخرى أقرب إلى القسوة مع زوجته. وإننى لأذكرها الآن ساكنة خاملة داهمها الذبول. لكن حين يتملكها المرح، وقليلا ما يتملكها المرح، فسرعان ما تنتابها نضارة مفاجئة، تشير أنها كانت، حين تزوجته، فتاة جمة الحيوية، لها بشرة مخملية صافية وشعر منهمر بديع. لكن لم يعد لها الآن حضور مميز، وقد بلغت الخامسة والثلاثين. مجرد زوجة فاترة تعتنى بأولادها ولا تبدى الجموح والانفعال.
وبرغم حرصه أن يبدو «جنتلمان»، فقد شاهدت عدة مواقف جعلتنى أشعر، من برودة عينيه والقسوة التى تختلج فى ملامحه، أنه لا يراها جديرة به. ولن أدهش إذا عرفت أن هذا الرجل الجذاب لم يكن يهتم بالنساء أصلا.
ولم تكن هى فى نظره أكثر من امرأة خاملة تفتقر إلى الحيوية قاربها الذبول. ومع أنها كانت نظيفة وأنيقة الهندام، فإنها كفت عن استخدام المساحيق وأحمر الشفاة، برغم أنها كانت تهتم بزينتها فى السنين الأولى من الزواج، فقد صار يعاملها بفتور أقرب إلى الإهانة.
وسمعنا عن مشاكل مكتومة داخل بيته، وداهمنا خبر الطلاق. ولم تكن هذه النهاية العنيفة بالمألوفة لدى طبقتنا فى هذا العصر. وعرفنا أيضا أنه احتفظ بأبنائه منها كوسيلة لإخضاعها والعودة إليه بشروطه، برغم أننا كنا نعلم أنه لا يبالى كثيرا بأبنائه. لكن المدهش والمذهل والذى لم تستوعبه عقولنا أنها بمجرد انقضاء فترة العدة سمعنا عن زواجها من مدير زوجها السابق. وكان رجلا أرمل جم المزايا شديد العطف ميسور الحال. وأسقط فى يد السيد قاسم الذى صار عاجزا عن الضغط عليها ومناصبة زوجها ذى المنصب الكبير العداء. وتريث زوجها بضعة شهور حتى هدأت العاصفة، وفى كياسته المشهورة قام بالاتصال بالسيد قاسم، وترتيب حقها المشروع فى رؤية الأبناء.
لكن المدهش كان حينما شاهدتها فى مناسبة اجتماعية بعدها بشهور. شاهدتها فلم أصدق ما جرى. وكأنها خُلقت امرأة أخرى. لم تعد فاترة صامتة تفتقر إلى الإيجابية المرحة، وإنما امرأة تنبض بالحيوية والانفعال الجامح الذى يختلج فى ملامحها، وكأنها نغم ترتعش به أوتار كمان. امرأة جمة العواطف، مشتعلة بالحب، وقد استجابت نفسها للمعاملة الكريمة التى تتلقاها من زوجها. ولاحظت أنهما يتبادلان النظرات الباسمة الحنون من آن لآخر وسط الزحام. وبرغم حداثة سنى وقتها لم أستطع أن أكتم «آهة»، وعرفت ما يصنعه الحب فى القلب الكسير.