أول خروجة لهذه الأرملة التعسة كانت بعد انتهاء فترة الحداد على زوجها التي امتدت إلى شهرين، والوجهة كانت إلى مكتب الصحة القريب من البيت بغرض نزع اللولب الطبي بعد أن أفتت لها إحدى صديقاتها بأن عدم نزعه- بعد توقف العملية الجنسية- سيتسبب لها في قروح والتهابات، قد تؤدي إلى مضاعفات خطيرة، كان المشوار ثقيلاً جدًّا على قلب الأرملة، فلم تعد تطيق أجواء المستشفيات وروائح الكحول والاتير وغلاظة وجوه ما يقال عنهم ملائكة الرحمة، كانت قد لازمت زوجها الراحل في عنبر المستشفى الحكومي لأكثر من عام، شافت فيه من صنوف العذاب ألوانًا، إهمال الأطباء عن المتابعة، طلبات الممرضات التي لا تنتهي التي تكلفهم بشراء القطن والحقن وكل ما يحتاجه المريض، فالمستشفى ليس به إلا أسرّة فقط كأنه بنسيون من بانسيونات الدرجة الرابعة، صراخ لا يكاد ينتهي حتى يبدأ من جديد لاحتضار مريض أو موته أو ألمه الشديد، رشاوى ومحايلات للعاملين كي يؤدوا ما عليهم من واجبات، انتهت تلك الفترة العصيبة براحة أبدية لزوجها وبظن ضئيل أنها ستنال قسطًا زهيدًا من الدعة والهدوء، ولولا أن مكتب الصحة ليس به غير أطباء وموظفين وبلا أسرّة ولا مرضى ما ذهبت بقدميها إلى هناك، حان دورها فقادتها العاملة إلى غرفة الكشف النسوي، فوجئت الأرملة بطبيبة منقبة كل ما عليها أسود حتى القفاز وبجوارها ممرضة جاوزت سن الشباب لكن جسدها مازال فتيًّا، بادرتها الطبيبة بصوت يطفح بالزهق: وأنتِ بتشتكى من إيه كمان؟ فأجابت الأرملة بهمس: عايزة اشيل اللولب يا دكتورة؟ انتفضت الطبيبة كمن لامسها ثعبان وشخطت فيها بحدة: هو إحنا فاضيينلكم؟.. نركب ونخلع ما ترسوا على حل عايزين الهباب الخلفة ولا مستغنيين، انكمشت الأرملة وتوقعت أن هذه الطبيبة العصبية ستؤذيها لو نزعت منها اللولب فقررت الانسحاب، وفعلا استدارت خارجة من الغرفة، لكن صوت الطبيبة القوي استوقفها: على فين..انتي ما صدقتي..
ثم قطبت الطبيبة جبينها وضيقت المسافة ما بين حاجبيها وأضافت: قربي يا ست هنا. وقوليلي إنتى كنتِ عايزة تشيليه ليه؟ لبدت الأرملة في مكانها وقالت بمسكنة: جوزى اتوفى من شهرين، قالت الطبيبة بآلية: الله يرحمه.. ومستنية شهرين بحالهم يا قلبك.. طب خشى ارقدي على سرير الكشف وأنا هاشيلهولك.
كانت الأرملة قررت ألا ينزع لولبها على يد هذه الطبيبة واعتقدت لسذاجتها أن القرار بيدها وقالت بصوت عادي هذه المرة: خلاص يا دكتورة، أنا راجعت نفسي وقررت إني ماشيلهوش.
وكأنها ألقت في حجر الطبيبة بفأر صحراوي، صرخت الطبيبة في وجهها في ذات الوقت الذي كانت تشير فيه إلى الممرضة بغلق الباب: قررتِ إيه بسلامتك؟.. اقفلي الباب يا صفية..حتخليه ليه حضرتك؟ هو جوزك مش مات! لازمته إيه تخليه..هو انتى ناوية على ايه بالظبط، أسقط في يد الأرملة ولم تدر بما تجيب أمام نظرات الطبيبة والممرضة.. وأسئلة الطبيبة المبطنة بالاتهامات والشكوك، واستسلمت تماما ليد الممرضة وهي تقودها إلى سرير الكشف، ومرت عليها أسوأ نصف ساعة في حياتها، كانت فيها الطبيبة تدب يدها داخلها وتنزع اللولب النحاسي بكل قسوة ووحشية ثم تمسك بخيط أمام وجهها وتديره كالبندول وعلى وجهها بسمة انتصار وهي تقول: ادينا شيلناه صلى بقا وصومى عشان جتة المرحوم تستريح في تربتها، هذا ما حدث بالتفصيل وبلا مبالغة لسيدة أرادت فقط إزالة عازلها الطبي، تمت محاكمتها أخلاقيا وافتراض سوء النية من طبيب أو طبيبة كل مهمته أن يعالج المريض ويقدم له أفضل العلاجات الممكنة كى يحافظ على حياته أو يمنع تدهور حالته كما أقسم على ذلك قبل تخرجه في كليته، لكن الأمور اختلطت جدًّا الآن، بتنا نسمع عن أطباء يمتنعون عن مداواة مرضاهم لأنهم يخالفونه في التوجه السياسي ومستشفيات ترفض استقبال «مصابي حوادث» حالتهم في منتهى الخطورة، والدقيقة تفرق في إنقاذ حياتهم لأنهم غير قادرين على الدفع، ومستشفيات تحتجز جثث المرضى الذين لم يستوف أهلهم دفع مصروفات علاجهم، وأخطاء طبية هائلة تحصد أرواحًا بالمئات، ومستشفيات تسرق أعضاء المرضى حتى انتشرت ظاهرة أن يدخل أحد الأطباء من عائلة المريض غرفة العمليات ملازمًا لقريبه المريض حتى لا تسرق أعضاؤه، كل هذا ولا يتحرك أحد من نقابة الأطباء ولا من منظمات المجتمع المدنى ولا من الحكومة ولا من الدولة العميقة لوضع حد لكل هذا العبث.. عبث في أغلى ما يمتلكه المواطن..حياته! وعلى الجانب الآخر بدأت بعض المستشفيات الكبرى تعلق صورًا لكبار أطبائها على الكباري والجسور وعلى أعمدة الإنارة.. صور بحجم كبير جدًّا كنجوم السينما والفضائيات، الأطباء يرتدون فيها معاطف غرف العمليات الزرقاء والنظارات الريبان ووجوههم تطفح بالرغد يغرونك بابتسامتهم الكبيرة- حتى لو كنت سليمًا ولست في حاجة إلى خبراتهم- أن تضع جسمك تحت أياديهم وتغمض عينيك وتتركها لله. بتنا نعيش على جانبين لا يلتقيان.. ناس تعاني وتكابد تموت ولا أحد يسأل فيهم.. وناس تانية تسمن وتتغذى على دماء الناس التانيين ويهلون علينا من الشاشات ويتسربون من السماعات يطالبوننا بالصبر وأفواههم تتلمز بالطعام.. صدقوني هذا الوضع لن يستقيم طويلا فأين حكماء هذا الوطن؟