ما كاد المشير «عبدالفتاح السيسى» ينتهى، مساء يوم الأربعاء الماضى، من إلقاء بيانه، الذى أعلن فيه استقالته من منصب وزير الدفاع ومن القوات المسلحة، واعتزامه الترشح لموقع رئيس الجمهورية، حتى تتالت ردود الأفعال، ليشمل القسم الأول منها طوفاناً من الزغاريد والتصفيق ومواكب التأييد، ضمت القسم الأكبر من المصريين، خاصة العوام منهم، الذين ظلوا لشهور طويلة ينتظرون إعلان هذا الخبر، واندفعوا إلى الشوارع يعبرون عن فرحتهم بتحقيق مطلبهم، بينما شمل القسم الثانى منها تغريدات على موقع «تويتر» وتدوينات على صفحات «فيس بوك»، صدرت عمن يعادون الرجل بسبب الدور الذى لعبته القوات المسلحة بقيادته فى دعم ثورة الشعب فى 30 يونيو، يعترض بعضها على ظهوره وهو يرتدى الزى العسكرى، ويعتبرونه دليلاً على أنه يخوض معركة الانتخابات الرئاسية بصفته عسكرياً، يسعى لإقامة ما يسمونه «حكم العسكر»، وتأكيداً على زعمهم بأن ما حدث فى 30 يونيو كان انقلاباً عسكرياً ضد الشرعية يهدف إلى تحقيق هذه النتيجة، وليس ثورة شعبية، ويحتج البعض الآخر على إذاعة البيان على كل قنوات التليفزيون المصرى الرسمى، ومعظم القنوات الخاصة، متسائلاً باستنكار عما إذا كان ذلك الامتياز سيتاح لمنافسه الوحيد - حتى الآن - «حمدين صباحى» أو لغيره من المنافسين الذين قد يظهرون فيما بعد.
وسواء تعلق الأمر بانتخابات الرئاسة أو بغيرها من الانتخابات العامة، فإن الخلاف حول أهلية كل من يخوضها لأداء مسؤوليات الموقع الذى يسعى للحصول على تأييد الناخبين لكى يشغله، وانتقاد كل منهم لبرنامج الآخر واعتراضه على ما يعتبره إخلالاً بتكافؤ الفرص بينهم وبينه، ليست فقط أموراً طبيعية وضرورية وصحية، ولكنها - كذلك - حقوق دستورية، وبالتالى فمن حق الذين لا يؤيدون «السيسى» أن يعبروا عن آرائهم فى هذه الشؤون جميعها، خلال فترة الدعاية الانتخابية، ومن حق الذين يؤيدونه، أن يردوا عليهم، وأن يفندوا ما قالوه، ليكون الفيصل بين الطرفين هو فى النهاية صندوق الانتخابات الذى هو كيوم الامتحان يكرم فيه المرشح أو يهان!
وما قاله خصوم «السيسى» السياسيون فى أعقاب إذاعة بيانه، دليل على أنهم، كأعدائه الأصليين، لم يجدوا فى الخطاب الذى أعلن به ترشحه، ما يدعو للاختلاف أو الاعتراض، فركزوا على الشكليات، شأن هؤلاء الذين يصفهم المثل الشعبى بأنهم «مالقوش فى الورد حاجة.. قالوا دا أحمر الخدين»، وتجاهلوا أنه قال فى خطابه إنه يظهر بهذا الزى العسكرى لآخر مرة، بعد 45 عاماً أمضاها وهو «يتشرف بزى الدفاع عن الوطن»، وأنه يخلعه من «أجل الدفاع عن الوطن»، فى إشارة واضحة إلى ما يفعله كل المصريين الذين يخلعون ملابسهم المدنية، حين يدعون لخدمة العلم، ويرتدون زياً عسكرياً، فإذا أنهوا فترة تجنيدهم، عادوا إلى أزيائهم المدنية ليخدموا الوطن، كلٌ فى مجال تخصصه، ويظلون مع ذلك فى قائمة القوات الاحتياطية، ليعودوا إلى ارتداء هذا الزى العسكرى إذا ما تطلبت خدمة الوطن، وكان ذلك ما قصده «المشير السيسى»، حين حرص على أن يظهر بملابسه العسكرية لآخر مرة، اعتزازاً بالدور الذى أداه فى خدمة الوطن وهو يرتديه، والذى وصل إلى قمته بالدور البطولى الشجاع، الذى لعبه فى دعم ثورة الشعب فى ثورة 30 يونيو، وساهم به فى تخليص الوطن من الفاشية الإخوانية التى لم يكن الرئيس المنتمى إليها يرتدى زياً عسكرياً، ومع ذلك كان يقود جحافل من الفاشست لاتزال تروع بعملياتها الإجرامية أمن المصريين حتى اليوم، بهدف إعادة ما يزعمون أنه أول رئيس «مدنى» فى تاريخ مصر!
وما فات على الذين أخذوا على التليفزيون المصرى المملوك للدولة أنه أذاع بيان «السيسى» دون غيره من المرشحين، هو أن القناة الأولى قد أذاعت فى أعقاب بث البيان مباشرة، برنامجاً خاصاً عن منافسه «حمدين صباحى» أشار إلى نضاله السياسى، وأن هذا البرنامج كان مقرراً أن يذاع على بقية القنوات التى تملكها الدولة لولا أن رؤساءها رأوا أن بثه فى أعقاب بيان «السيسى» مباشرة أمر قد لا يكون لائقاً، فأجلت ذلك لفرصة أخرى، خاصة أنها سبق أن أذاعت خبر إعلان ترشح حمدين فى حينه، وأن القنوات الخاصة تعاملت مع بيان «السيسى» باعتباره خبراً مهماً واستثنائياً، ينتظره الجميع، فى حين أن خبر ترشح حمدين أصبح - بالمصطلح المهنى - خبراً محروقاً، قامت بعض هذه القنوات فى حينه بتغطيته بكثافة، سواء بإذاعة تسجيل للمؤتمر الذى أعلن فيه بشكل مفاجئ بيان ترشحه، أو بإجراء حوارات معه أو مع مناصريه، وما فعلته صحف خاصة، ولم يقل أحد وقتها إن فى ذلك إخلالاً بالتكافؤ بين المرشحين.
وربما يكون مهماً أن يتنبه الجميع إلى الفارق بين طبيعة التزام الإعلام المملوك للدولة، وطبيعة التزام الإعلام الخاص، بمختلف وسائلهما، المرئية والمسموعة والمطبوعة والإلكترونية، فيما يتعلق بأدبيات الدعاية الانتخابية التى ينص عليها قانون الانتخابات الرئاسية، سواء استخدم المرشح هذه الوسائط أو غيرها، أو تطوعت هى للقيام بها، إذ يحظر القانون على كل الأطراف، التعرض لحرمة الحياة الخاصة لأى من المرشحين، أو تهديد الوحدة الوطنية أو استخدام الشعارات الدينية التى تدعو للتمييز بين المواطنين، أو استخدام العنف أو التهديد به.. كما يفرض عليها أن تضمّن ما تنشره أو تذيعه من استطلاعات للرأى حول الانتخابات الرئاسية، المعلومات الكاملة عن الجهة التى قامت بالاستطلاع، والجهة التى تولت تمويله والأسئلة التى اشتمل عليها وحجم العينة ومكانها وأسلوب إجرائه وطريقة جمع بياناته، وتاريخ القيام به، ونسبة الخطأ المحتمل فى نتائجه.. فضلاً عن محاذير أخرى تتعلق باستخدام المبانى الحكومية ودور العبادة فى الدعاية الانتخابية.
وفضلاً عن هذه الشروط المشتركة، يلزم القانون وسائل الإعلام المملوكة للدولة، سواء كانت مرئية أو مسموعة أو صحفية، بما لا يلزم به وسائل الإعلام المملوكة للقطاع الخاص، ويفرض عليها المساواة بين المرشحين فى استخدامها لأغراض الدعاية الانتخابية.. ويقضى بأن تختص لجنة الانتخابات الرئاسية بتقرير ما تراه من تدابير عند مخالفة ذلك، ولها - على الأخص - أن تصدر قراراً بالوقف الفورى لهذه المخالفة، دون إخلال بأحكام المسؤولية التأديبية للمخالف.
ومعنى هذه المادة أن القانون يحظر على أجهزة الإعلام المملوكة للدولة من قنوات تليفزيونية ومحطات إذاعية وصحف قومية، أن تنحاز لأحد المرشحين دون الآخرين، سواء فى مساحة ما تفرده له من وقت أو صفحات، لشرح برنامجه أو تغطية مؤتمراته وجولاته الانتخابية، أو بمنحه - دون الآخرين - تخفيضات على ما تنشره له من إعلانات، أو فى مساحة ما تنشره عنه من أخبار أو صور... إلخ.
والمنطق وراء ذلك مفهوم، ذلك أن وسائل الإعلام المملوكة للدولة هى جزء من الملكية العامة، تمول من الضرائب التى يدفعها جميع المصريين، وبالتالى لا يجوز أن تنحاز إلى مرشح دون بقية المرشحين، على العكس من وسائل الإعلام الخاصة، بما فى ذلك القنوات والصحف التى تملكها الأحزاب أو تساهم فى تمويلها، فهى حرة فى اتخاذ الموقف الذى تراه، على أن تعلن انحيازها صراحة، حتى لا تضلل المشاهدين بادعاء الانحياز، ولا يجوز لها مع ذلك - طبقاً لمواثيق الشرف الإعلامية - أن تخالف هذه المواثيق بإذاعة أخبار كاذبة تشهر بالذين ينافسون المرشح الذى تؤيده، أو تنتهك حرمة حياتهم الخاصة.
تلك بعض القضايا الجادة، التى سوف تثيرها معركة الانتخابات الرئاسية، والتى سوف تزداد بالقطع حين يكتمل عدد المرشحين الذين سيخوضون المنافسة على الموقع، ويذيع كل منهم برنامجه التفصيلى، وهى تحتاج إلى مناقشات جادة ومسؤولة، بدلاً من القفشات التافهة التى شغل بها جمهور الشبكة العنكبوتية أنفسهم، بعد إذاعة بيان المشير السيسى، حول حرصه على ارتداء الزى العسكرى وهو يلقى بيانه، دون أن يتنبهوا أنه فعل ذلك احتراماً للزمن الطويل والجميل الذى كان خلاله يخدم العلم وهو يرتديه، وعلى ألا يخلعه قبل أن يقول للمصريين جميعاً إنه يغادره إلى جبهة قتال أخرى دفاعاً عن الوطن، وكان ذلك ما فهمه عوام المصريين الذين تعالت هتافاتهم وزغاريدهم وتصفيقهم بمجرد الانتهاء من إلقاء البيان، ليقولوا للرجل: تعظيم سلام للشعب وللوطن الذى أنجبك!