بينما كنا نتابع فرحة المذيع، حيث شاهدنا الدموع تنهمر من عينيه فرحا بترشح المشير السيسى للرئاسة وخلعه للبدلة العسكرية، كانت الزغاريد تأتى صاخبة من الجماهير الذين حرصوا على النزول إلى الشارع، وينقل المذيع مشاعرهم على الهواء، ولولا الملامة لشاركهم الزغردة والرقص. فجأة استمعنا إلى صوته مجددا وهو يقول «سقطة، سقطة تليفزيونية أخرى، حدثت قبل دقائق من تليفزيون الدولة الرسمى، عرضوا تقريرا عن المرشح حمدين صباحى»، وأضاف «هل التليفزيون فى غيبوبة عما يجرى فى الشارع؟ هناك ولا شك مؤامرة تجرى داخل الدولة». لم أكن أتابع مثل أغلب الناس الشاشة الرسمية، ولا يمكن لعاقل سوى أن يتأكد أن ما يجرى فى قنوات القطاع الخاص كان يجرى وأكثر منه فى القنوات الرسمية، ولكن ممكن فى قناة واحدة بين أكثر من 50 فضائية يملكها ماسبيرو، وعلى استحياء شديد يقدم برنامجا مسجلا عن برنامج صباحى الانتخابى. أنا على المستوى الشخصى لا أرى لدى حمدين قدرة على قيادة البلد، لا فى هذه المرحلة ولا السابقة ولا اللاحقة، لأنه يتبنى خطابا سياسيا تجاوزه الزمن، ولكن قناعتى الشخصية لا تعنى أن الإعلام يعامله مثل المخدرات لا يمكن الإشارة إليها إلا فى إطار التحريم. سبق أن أعلنت وزيرة الإعلام د.درية شرف الدين أن تليفزيون الدولة سيقف على مسافة واحدة من الجميع، برغم أن كل ما هو مسموع ومرئى ومقروء لا يمكن فى تلك اللحظة الراهنة أن يقف على الحياد رسميا أم خاصا، صحيح أن الجميع يردد شعار المسافة الواحدة -شعار المرحلة- ولكن بالتأكيد المسافة متباينة. الأمر كما ترى محسوم إعلاميا، ونحن لا نتعامل سوى مع خطاب واحد مهما تعددت تنويعاته. أنا لا أغفل أن المزاج النفسى الراهن يدفع الإنسان المصرى أن يحلم بالغد الآمن المشرق، الذى قدمه السيسى فى خطابه والذى وصفه بأنه من القلب. هل يليق ما نراه بمصر التى قامت بثورتين فى غضون عامين أن تصل إلى مشارف مرحلة التقديس لرجل واحد، وأن نتابع كالعادة قسطا وافرا من مثقفينا وفنانينا وهم ينتقلون من محطة إلى أخرى يكررون نفس الجملتين، هانى شاكر مثلا لم يكتف بالإشادة بالخطاب ولا بالآمال التى حملها للناس، ولكنه غنى أيضا ولا أستبعد أن تمتلئ الفضائيات فى الساعات القادمة بأغانى لهانى وغيره تتغنى بالسيسى رئيسى، مستندة إلى أنها تعبر عن إرادة شعبية. هل مصر بحاجة إلى كل ذلك؟ وهل خطاب السيسى يختلف فى محدداته الأساسية عن أى خطاب آخر حتى يعتبره الجميع على الفضائيات سواء أكان ضيفا استراتيجيا أم غير استراتيجى خطابا استشرافيا لمصر القادمة؟ هل من الممكن أن نرى فى أى خطاب لأى مرشح سابق أو لاحق سوى تلك الوعود، وأن يتضمن أيضا تلك الكلمات التى تطمئن الناس على القادم، وتدعوهم فى نفس الوقت إلى بذل كثير من الجهد وتعد الشباب الغاضب بحل مشكلة البطالة، وتطرح أملا تنجو به مصر من كبوتها وتتطلع إلى ضوء الشمس. لسنا فى الحقيقة بصدد معركة انتخابية، ولكن توجه نفسى تجاه السيسى، الرجل العسكرى المنقذ، ومسألة خلعه الزى العسكرى لا تعنى أنه فى لحظة واحدة سيتحول إلى طبيعة مدنية. العسكرية ليست مجرد زى ولكن سلوك داخلى، وطبيعة نفسية، والرجل أمضى فى الحياة العسكرية منذ أن كان طالبا فى الكلية الحربية أكثر من أربعة عقود من الزمان، ولهذا بات واضحا أن الأيام القادمة ستشهد مساحة لعمرو موسى ليضفى لمسة مدنية على ملامح الدولة، ولكن سيظل المذاق العام وفى كل المجالات مصبوغا باللون الكاكى. فى كل الأحوال رغم ما يحمله القادم من الأيام، علينا أن نسعى لكى يُصبح الرهان الأهم الذى نسعى إليه جميعا هو أن تظل مصر بعيدة عن الصوت الواحد والنغمة الواحدة، لأنه سوف تأتى لحظة تشبع يضج فيها قطاع كبير من الناس من تلك النغمة. ضبط الجرعة ضرورة حتمية، تصب فى مصلحة الوطن الذى دفع ثمنا كبيرا لكى يتحرر من حالة التماهى مع الأب والزعيم والقائد الملهم، الذى يملك اللمسة السحرية، مصر هى التى تملك السحر كله
طارق الشناوي يكتب: زغرودة ورقصني يا جدع!!
مقالات -
طارق الشناوي