لم يتوقع أحد أن أهل نادين سيوافقون على الذهاب إلى المشرحة. ثقافة الخوف من تشريح الجثة بحثا عن دليل القتل/ تحمى القتلة فى المستشفيات.. وكلهم يتوقعون أن رهبة الموت ستمنع الأهل من القرار... لكن عائلة نادين ارتفعت بحزنها ليكون سببا فى حماية أرواح آخرين من القتل فى مستشفى مصر الدولى، الذى غطى على خطأ الجراح «الدلوعة إسماعيل أبو الفتوح وسنده خيرى صابر»، كما كانت رعايته تتعامل معها على أنها «وديعة موت».. التركيز كان على «الطرمخة» وليس إنقاذ الحياة. ولأنهم تعودوا على الطرمخة حتى أصبحت «العلم» الوحيد الذين يبرعون فيه فاتهم التوقع بأن هناك من سيكسر دائرة التواطؤ المنحطة. وبينما كنا نقف على أبواب المشرحة.. احترت: لماذا أنا هنا؟ ومن الذى تركناه فى الثلاجة الباردة وحيدا ينتظر ضمير الطبيب الشرعى لنكمل بتقريره معركة الدفاع عن الحياة؟ معركة ضد القتل؟ لم يمر على بالى يوما ولو على شكل كابوس أن النائمة وحدها فى ثلاجة المشرحة ستكون نادين. كيف وصلت إلى هنا؟ هذا سؤال «وجود» لا مجرد تجلٍّ للحزن/ أو صدمة من الرحيل المبكر وقطف العمر؟ سؤال يتعلق بالوجود هنا... ولماذا أصبح طريقنا للمشرحة سهلا؟ على جدران المشرحة أسماء وتحيات لراحلين ومواعيد رحيلهم ولعنات على القاتل.. لا يمر يوم تقريبا إلا وذكراه مسجلة.. من يقتل بهذه السهولة؟ تشعر بالضلالات هنا لأن القتل لم يكن فى معركة حول الحق السياسى/ أو عنف الدولة والعنف المضاد لها/ لكنها معركة من نوع آخر. حرب يومية ضد الحياة... حرب نشعر بها من الصباح إلى المساء... من الطفولة إلى الكهولة... حرب الحياة فى بلد خطر. ... قبل الانتخابات والسيسى وهل هى مسرحية أم مقاومة لإغلاق المجال السياسى.. قبل الإسلامية والقومية والشيوعية وبلاد تركب الأفيال... قبل الديمقراطية والديكتاتور العادل والاستبداد الشرقى والأناركية... قبل الهويات والأنظمة.. هل تصلح مصر للحياة أصلا؟ أعتقد أن مصر وصلت إلى مرحلة لا بد أن تعلق على مداخلها الجوية والبحرية والبرية: «احذر.. خطر الموت» لا لأنها منطقة شبه حروب أهلية/ أو صراعات على السلطة/ ولا حتى لأن القتل على الهوية السياسية أصبح سهلا/ ولكن لأنها منطقة «ضد الحياة».. التهمها الفساد إلى درجة فرغتها من أساسيات الحفاظ على الأمان.. لم يعد باقيا من الدولة إلا صروحها التى من خلفها فراغ. وحتى من يتصارعون على حكم هذه الدولة لن تنقذهم سلطاتهم... سيصل الموت ولو كنت فى أبراج السلطة أو منتجعات مغلقة/ لا يمكن أن تعزل نفسك فى جزيرة وسط الخراب الذى صنعته سنوات الاستبداد الطويلة... ليس مجرد خراب فى الذمم، ولكن فى الروح والقدرة على أن تكون إنسانا لا ترسا فى ماكينة البيزنس العملاقة... الإنسان فى مصر الآن يُختزل إلى كائن يخدم أنانيته المفرطة/ يفسد المجال الذى يمكنه أن يستمر/ فماذا ستكسب إذا أفسدت كل مجالات الحياة من أجل أن تتضخم ثروتك أو تنتفخ أكثر؟ أين ستستمتع؟ أين ستستعرض ثروتك؟ هل سترقص على جثث الجهلاء الذين تخرجهم؟ أم المرضى الذين تقتلهم؟.. من سينقذك إذا لم تعلم أحدا مهارات الطب؟ كيف تريدون أن تكونوا آلهة على موتى وجهلاء؟ هذا هو الوضع الذى أصبحنا فيه ندخل المدارس لنزداد جهلا والمستشفيات لنموت... ماذا تعلم الطبيب فى الكليات غير البيزنس؟ مع الأيام يخفت العلم ويبقى البيزنس وتنتفخ الذات.. وتصبح الحياة رخيصة والحق فيها معاندة للقدر الذى جعلنا أسرى فى أيدى آلهة لا تعرف الرحمة. ...لم ننتبه أن الأنظمة التى عشنا حروبا حول «هويتها» أو «مدى ديمقراطيتها» أو «ليبراليتها» أو «اشتراكيتها».. أفسدت الحياة وجعلتها «مغامرة مميتة»... والجديد أن نطاق الضحايا يتسع... وليس هناك «طبقة مميزة» ناجية.. فالموت يلاحق الجميع. حتى الطبيب الإله سيواجه الموت بنفس السلاح الذى يقتل به كل يوم إذا اضطر يوما إلى إنقاذ سريع قبل أن يطير بأمواله ليعالج فى بلاد تحترم الحياة. هكذا نعيش سنوات من التدمير الذاتى بالأنانية والعجز وغياب العقلانية... حتى تحولت الدول إلى مقابر جماعية محتملة... من القتل فى المستشفيات إلى أخطار الطرق وحتى انعدام الأمن وانتظار التفجير عند كل ناصية. نحيا إذن فى انتظار موت مفاجئ. لهذا كان قتل نادين شمس فى المستشفى خبرا أول... ليس لأنها كاتبة أو مشهورة.. لكن لأنها تفتح الملف المغلق... لماذا نتستر على قاتلنا المختبئ خلف الأبواب وتحت الجلد وبجوارنا؟ مقتل نادين بالخطأ الطبى أثار الذعر فى أوساط متعددة. لم يعد القتل فى المستشفيات يقتصر على الفقراء أو قليلى الحيلة الذين لا يجدون سوى مستشفيات الحكومة.. لكن المرض أصبح خارج السيطرة. الخبر فتح ملفات «السياسة الغائبة» التى تتعلق بوجود الدولة ككيان يضمن الحماية والأمن للإنسان/ تغيب الأوليات التى قامت عليها دولة ما بعد الحرب العالمية الثانية التى كان هدف سياستها تقديم منظومة حماية الحياة ورفاهة الجسد. الدولة فى هذه المنطقة تتحول إلى كيانات «جباية سلطوية» استقالت من مهامها فى المرحلة الأولى/ ثم تحولت إلى الكيان الحامى للمافيات من السياسة إلى الصحة مرورا طبعا بكل المجالات. تحول الدولة إلى مجمع مافيوى.. يمكنه وضع أى لافتة سياسية أو حزبية أو أيديولوجية أو هوياتية.. ما دامت تضمن المصالح وتنظيم العمل بين المافيات المتعارضة. هذه مرحلة هامة نكتشف فيها أننا لسنا فى دول فاشلة سياسيا أو غبية ديمقراطيا أو خائنة فى معارك مصيرية.. لكنها دول مثل عبث الجحيم الأرضى. .. وحياتك يا نادين سنطارد القاتل فى المستشفى.. حيث الطبيب إله قاتل بإهماله.. والرعاية مركزة فى امتصاص الدماء.. والطب تجارة فى الألم
وائل عبد الفتاح يكتب: .. إنهم يحمون القاتل فى المستشفى
مقالات -
وائل عبد الفتاح