الأزمة بين الولايات المتحدة ومصر ليست بالخطورة التى تبدو عليها. أسس العلاقة متينة. راسخة فى المصالح المتبادلة. متداخلة مع قضايا المنطقة. عابرة للرئاسات المصرية والإدارات الأمريكية. التحديات التى ستواجه البلدين فى المستقبل تحتم علاقة أوثق، لا العكس. من يتحكمون فى مفاتيح العلاقة بين البلدين يدركون هذا.
مع ذلك، تعيش مصر منذ شهور موسم الهجوم على الولايات المتحدة. هجاء أمريكا هواية قديمة لدى النخبة المصرية. دعك من الهستيريا الجماعية التى أصابت الإعلام. أصل الهجوم على الولايات المتحدة هو موقفها مما حدث فى 30 يونيو، و3 يوليو الماضى. هناك انطباع سائد ـ بالفعل ـ بأن الولايات المتحدة ساندت جماعة الإخوان المسلمين.
على الأقل لم ترحب بالإطاحة بمرسى. انتظر المصريون من العالم أن «ينبهر» بـ 30 يونيو، كما «انبهر» بـ 25 يناير. خاب أمل المصريين عندما وجدوا العالم فى حال من الحيرة والانزعاج بدلاً من الانبهار والإعجاب.
استغربوا أكثر عندما لمسوا ما يشبه المساندة الأمريكية لموقف الإخوان. سمعوا أصواتاً من الكونجرس تسمى ما حدث انقلاباً وتدعو لقطع المساعدات عن مصر كما يقضى القانون. استفز ذلك الشعور الوطنى المتضخم فى أعقاب 30 يونيو. زاد الاحتقان أكثر مع قرار الإدارة الأمريكية فى أكتوبر الماضى تعليق بعض المساعدات العسكرية من طائرات إف16 والأباتشى ودبابات الأبرامز.
استغربتُ عندما سمعتُ الأكاديمى الأمريكى المتخصص فى الشأن المصرى، «روبرت سبرينجبورج» يسمى تلك الأصوات القادمة من الكونجرس «نباحاً». قال ـ فى محاضرة عقدها مؤخراً مركز الدراسات الدولية بروما ـ إن «الكلاب تنبح والقافلة تسير». والقافلة المقصودة هنا هى العلاقات الوطيدة بين مؤسستى الحكم فى مصر وأمريكا. المؤسستان الأمنيتان على وجه التحديد. أمريكا العميقة ومصر العميقة، إن شئت!
يرى «سبرينجبورج» أن الولايات المتحدة فتشت عن حليف قوى لها فى مصر منذ أربعينيات القرن الماضى. هى سعت للتحالف إما مع عبد الناصر أوالإخوان المسلمين. رأت أمريكا أن البرجوازية المصرية ضعيفة ومفككة. التاريخ يعيد نفسه الآن. نحن فى 1954 من جديد. الخيار بين الإخوان والجيش. «سبرينجبورج» يرى أن أمريكا حسمت خيارها لصالح الجيش.
قال لمستمعى المحاضرة بلهجة اعتذارية إنه لا يريد أن «يبيع» لهم هذا الخيار، ولكنه يظل الأفضل فى الوقت الحالى وإلى أن تظهر قوى جديدة على الساحة فى مصر. حاول أن يضعهم فى صورة ما يحدث فى مصر قائلاً إن أسماء لامعة من مشاهير المثقفين المصريين صارت تؤيد الحكم العسكرى. قال لى الأكاديمى الأمريكى بعد المحاضرة إن كل ما فعلته أمريكا بعد 30 يونيو يظل «نباحاً بدون عض»!
«سبرينجبورج» ليس وحده فى هذا الفهم للعلاقات المصرية- الأمريكية. نشرت دورية The American Interest دراسة ممتازة مؤخراً تحت عنوان «الزحف التبشيرى على مصر». كاتب الدراسة ينتقد فكرة نشر الديمقراطية فى مصر. لا يرى أن الضغط لاستعجال الانتقال نحو الديمقراطية يصب فى مصلحة مصر أو أمريكا. يحدد المصالح الأمريكية مع مصر فى ثلاث نقاط: الأولى؛ عدم انزلاق البلد إلى حال من الفوضى الكاملة. الثانية؛ الحفاظ على استقرار مصر لأنه يخدم استقرار المنطقة، فبرغم أن مصر لم يعد لها الأثر الثقافى الملهم ولا الثقل الدبلوماسى الذى كان. إلا أن ثقلها الديموغرافى ومعاهدة السلام مع إسرائيل يجعلان منها لاعباً مهما فى استقرار الإقليم. الثالثة؛ التعاون فى مكافحة الإرهاب. الكاتب يقول إن الجيش وحده من يستطيع صيانة هذه المصالح. يضيف: «الجيش أنشأ جهاز إدارة مركزياً فى مصر. الجيش وحده من يستطيع إدارة هذا الجهاز».
يمكن بسهولة رصد تواتر هذا الخط من التفكير فى الإعلام ومراكز البحث الأمريكى. مؤخراً، كتب «آرون ميلر»، وهو دبلوماسى مخضرم متخصص فى الشرق الأوسط، مقالا فى النيويورك تايمز تحت عنوان: «أمريكا ليس لديها خيارات فى مصر». جوهر المقال أن الجيش هو القوة الرئيسية فى البلد. بالتالى، فإن النهج الذى اختارته إدارة أوباما بالتخلى عن أى جهد جاد لنشر الديمقراطية فى مصر، والعمل مع الجيش وليس ضده، هو نهج منطقى ومطلوب. فى غياب الجيش، ربما كان البلد قد غرق فى الفوضى والتفسخ.
هذه الرؤى الأمريكية انعكاس طبيعى لمرور شهور على إسقاط الإخوان دون انزلاق للفوضى. بمرور الوقت يقل احتمال وقوع السيناريوهات الكارثية التى تخوف منها البعض. يسمح ذلك بمناقشة أكثر هدوءاً للمصالح الحقيقية التى تربط البلدين. بصرف النظر عما تريده الولايات المتحدة من العلاقة مع مصر، نحتاج أن نسأل أنفسنا أسئلة جوهرية: ما الذى نريده نحن من العلاقة مع أمريكا؟ لماذا نحتاج هذه العلاقة؟ وهل تنحصر أهميتها فى المعونة العسكرية السنوية؟. الإجابة عن هذه الأسئلة تمثل الخطوة الأولى لإعادة صياغة العلاقة مع الدولة القائد فى عالم اليوم.