حيث إن الثورة تغيير جذرى لوضع قائم فيلزم إقصاء كل ما يقف ضدها من قوانين وكل مَنْ يقف ضدها من المدافعين عن ذلك الوضع.
والسؤال إذن:
ما هو الوضع القائم الذى كان على الثورة إزالته؟
الوضع القائم من صُنع أصولية دينية تضم الإخوان المسلمين والسلفيين كانت بدايتها فى زمن الرئيس السادات للقضاء على الشيوعيين والناصريين واليساريين، ثم تسربت فى زمن الرئيس السابق مبارك فى شرايين الحزب الوطنى الديمقراطى إلى أن أصبح الحزب فرعاً من فروعها. وفى 28 يناير 2011، أى بعد ثلاثة أيام من انفجار ثورة 25 يناير استولت الجماعة عليها وحولتها إلى ثورة مضادة تفرض معتقدها المطلق على الشعب المصرى فى غير تسامح مع مَنْ يرفضه إلى حد القتل.
واللافت للانتباه هاهنا أن الأصولية الإسلامية لم تكن متفردة فيما انتهت إليه، إذ كانت محاكاة لأصولية مسيحية فرضت معتقدها المطلق على الشعب الإنجليزى فنشبت « الثورة الإنجليزية المجيدة» فى عام 1688. وقيل فى حينها إن الفيلسوف الإنجليزى جون لوك (1632- 1704) هو المنظِّر لهذه الثورة، إذ صنَّف فيها كتباً كان من بينها كتاب محورى اسمه «رسالة فى التسامح» صدر فى ثلاث طبعات خلواً من ذكر اسمه على الغلاف.
والسؤال إذن:
ماذا كان يقصد لوك من لفظ «التسامح» الوارد فى الرسالة فى زمن يموج بالتعصب مع المطاردة والتهديد بالقتل إلى الحد الذى دفع لوك إلى الهروب إلى فرنسا ثم إلى هولندا؟
كان لوك يقصد التسامح الدينى بمعنى أنه « ليس من حق أحد أن يقتحم، باسم الدين، الحقوق المدنية والأمور الدنيوية». ثم يستطرد قائلاً: «إن فن الحكم ينبغى ألا يحمل فى طياته أية معرفة عن الدين الحق». ومعنى ذلك أن التسامح الدينى يستلزم ألا يكون للدولة دين لأن «خلاص النفوس من شأن الله وحده». ثم « إن الله لم يفوض أحداً فى أن يفرض على أى إنسان ديناً معيناً». ثم « إن قوة الدين الحق كامنة فى اقتناع العقل، أى كامنة فى باطن الإنسان». ولهذا «فإن المجتمع السياسى لم يتأسس إلا لتحقيق غاية وحيدة وهى تأمين ملكية الإنسان للأشياء الدنيوية، أما عناية الإنسان بروحه وبالأمور السماوية التى لا تنتمى إلى الدولة ولا تخضع لها فإنها متروكة تماماً للإنسان». ومن هنا تكون مهمة الحاكم عدم التسامح مع الآراء المضادة للمجتمع الإنسانى أو مع القواعد الأخلاقية الضرورية للمحافظة على المجتمع المدني.
■ ■ ■
دين أم أديان
تنص المادة الثانية من الدستور على أن «الإسلام دين الدولة». والسؤال بعد ذلك: وماذا عن الأديان الأخرى؟ إنها تُذكر فى المادة الخاصة بالأحوال الشخصية لغير المسلمين. ومعنى ذلك أن الأديان الأخرى تأتى فى مرتبة تالية بدعوى أن ليس منها دين يمثل «الأغلبية» مثل الإسلام. بيد أن مصطلح الأغلبية وما يقابله من مصطلح «الأقلية» لا علاقة لهما بالأديان إنما لهما علاقة بالمجال السياسى حيث تعدد الأحزاب مع اشتراط أن تكون الأغلبية التى يعلنها صندوق الانتخاب هى صاحبة الحق فى تمثيل السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. ويترتب على ذلك أن القول بأن ثمة أغلبية دينية فى دستور من صنع البشر يعنى فى الوقت ذاته أنها أغلبية سياسية حتى وإن قال صندوق الانتخاب بغير ذلك. ومن هنا كان من حق جماعة الإخوان المسلمين أن تعلن فوزها فى الانتخابات الرئاسية قبل أن تعلن اللجنة الرسمية المسؤولة وحدها دون غيرها عن إعلان النتيجة.
ومع ذلك فأنا أظن أن مسألة «دين أم أديان» مسألة لها دلالة أخرى تفوق الدلالة الأولى التى بدأتُ بها هذا المقال. وهذه الدلالة الأخرى لها قصة جديرة بأن تروى على النحو الآتى:
فى أغسطس من عام 1971 دعانى وزير التربية والتعليم بالسودان الدكتور محيى الدين صابر لأن أكون أستاذاً زائراً بجامعة الخرطوم فقبلت بحكم العلاقة الحميمة. وهناك دعتنى جماعة الإخوان المسلمين لإجراء حوار فى ندوتين. وفى إحدى الندوتين كنت أتحدث عن دور الأديان فى العالم المعاصر، وعن كيفية توظيفها لمحاربة المعسكر الشيوعى. وحينها ذكرت من هذه الأديان أحد عشر ديناً معاصراً. وهنا ضجت القاعة التى امتلأت بأربعمائة أخ ولكنى لم أفهم سبب هذه الضجة فطلبت تفسيراً فجاء الجواب على النحو الآتى: «ثمة دين واحد هو الإسلام وما عدا ذلك فليس بدين».