أستطيع أن أتدبر طريقى من القاهرة إلى العديد من المدن المصرية بعكس ضواحى العاصمة التى بقيت مستعصية عليّ.
حتى «التجمع الخامس» المشتبك مع مدينة نصر، حيث أقيم منذ عشرين عامًا، لم أتمكن من معرفة مداخله ومخارجه، وصار لزامًا على من يدعونى إليه أن يتكفل باستلامى من مدينة نصر وإعادتى إليها. ولا أظن أن بقاء ضواحى 6 أكتوبر، والتجمعات والرحاب ومدينتى وغيرها، عقدة منهج الجغرافيا بالنسبة لى بسبب نقص فى القدرة على الإدراك، بل بسبب الرفض النفسى لما تمثله هذه التجمعات وما ترمز إليه سياسيًا وحضاريًا.
كان إنشاء هذه التجمعات بما تضم من مجمعات مسورة التعبير العمرانى الواضح عن ثأر كامن بين فقراء وأغنياء المجتمع جعل الأغنياء ينعزلون فى أماكن خاصة بهم. وكان هذا هو نهاية الطريق لا بدايته.
كانت القاهرة ولم تزل، مثل كل مدن الدنيا، تضم أحياء للأرستقراطية وأخرى للبرجوازية وثالثة للبلوريتاريا، لكن الفصل لم يكن حادًا، حيث يتدرج حى المهندسين ليصبح بولاق الدكرور، وتتدرج مدينة نصر لتصبح عزبة الهجانة، وحيث يتجاور الوراق وامبابة مع الزمالك والجيزة مع الهرم بتدرجاته المختلفة، وحيث تمهد المنيرة للانتقال الآمن من السيدة زينب إلى جاردن سيتى، وحيث وسط المدينة فضاء للجميع.
لا بوابات تغلق على الأحياء بالطبع، فكان بوسع ساكن الحى الفقير أن يذهب إلى أحياء الأغنياء للنزهة وارتياد السنيمات والمسارح.
ثم تكالبت قوى القمع السياسى والدينى على المدينة؛ فبدأت موجة الانغلاق بدافع التدين حينًا وبدافع الخوف من الآخرين أحيانًا، وظهر أثر ذلك فى التقليل من البلكونات فى العمارة الجديدة وتغيير أسوار الكثير من الفيلات والقصور من الحديد المشغول إلى البناء بالطوب والأسمنت المدعم بكسر الزجاج والحديد المدبب فى قمته، ولم يعد بوسع المارة أن يتمتعوا بجمال حدائق الفيلات أو يروا سكانها، وفى الوقت ذاته اكتشف هؤلاء السكان فجأة أنهم يعيشون فى حارات ضيقة، لم يكونوا يشعرون بضيقها عندما كان فضاء الحديقة مفتوحًا على الشارع.
ولم يقتصر حظ المدينة من الرثاثة على هذه المساهمات الفردية، فقد كان النظام يضيق باستمرار مساحات الفضاء العام ومناسباته بإغلاق المسارح والسينمات وتضييق الميادين بالكبارى العلوية والبناء ولا يمكن أن تكون هذه الإجراءات بدون وعى بوظيفة الميدان فى الحشد الذى يخلق بدوره مدنية المدينة ويصنع الرأى العام بها. وصلت الرغبة السياسية فى تقسيم المصريين إلى حد حرمانهم من الحزن الجماعى، حيث كانت جنازتا أم كلثوم وعبدالحليم حافظ آخر الجنازات الشعبية.
ومع تآكل فضاءات المجتمع المدنى صار لقاء الأقباط فى الكنائس ولقاء المسلمين فى المساجد، لكن هذا الشق الطائفى لم يكن الفرز الوحيد الذى تعرض له المصريون، بل الفرز على أساس الفقر والغنى. والتجمعات هى العنوان الأبرز لهذا الفرز، وظلت تتوسع بالتوازى مع التنكيل المنتظم بالمدينة التى تضرب العشوائية فى شوارعها وتضرب الشيخوخة والقذارة منشآتها، ويأكل التلوث والانتظار بالساعات فى إشارات المرور أعصاب سكانها، وكلما ازداد ضغط التنكيل بالعاصمة ازداد فرار سكانها إلى التجمعات.
وكأنها اتفاقية بين رجال الأعمال والإدارة الفاسدة لتسليمهم الزبائن الذين يعاملون بلا رحمة، وخارج كل منطق اقتصادى سليم. وبدلاً من أن تتبدل الأوضاع بعد ثورة يناير استمر التنكيل بالمدينة بل ازداد بالجدران العازلة وبأعداد ضخمة من باعة الملابس المستعملة، فيما يبدو طريقة مبتكرة للتنكيل بالمدينة أكثر منها تجارة تحقق ربحًا لشباب لا يجدون فرصة عمل!
وكلما استمر التنكيل بالمدينة استمر فرار المفزوعين من جحيمها إلى جنة التجمعات التى لا تملك مقومات العيش المستقل، بل يستخدمها اللصوص الكبار للاختفاء من أعداء محتملين فى المدينة ويستخدمها زبائنهم الخائفون ثكنات ليلية تصون كرامتهم لنصف اليوم، ويضطرون إلى العودة لأعمالهم صباحًا فى مدينة تتعرض للتنكيل.