لا يجتمع النقيضان مثل البطولة والخيانة، الشجاعة والجبن، الكرم والبخل، ولكن هل يتواليان؟ يكون الإنسان بطلا ثم خائنا، شجاعا ثم جبانا، كريما ثم بخيلا إذا ما تغيرت الظروف وكأن هذه الصفات ليست فى الإنسان بل هى سمات مكتسبة، تأتى وتذهب؟
وهل يقع هذا التناقض فى الفرد، خيّر وشرير، بطل وخائن؟ وهل السمات الفردية ترجع إلى طبيعة الفرد أم إلى الوضع الاجتماعى؟ هناك صناديق الاقتراع التى تحدد اختيار الناس. وهى الأقدر على الحكم على من البطل ومن الخائن. فالرئيس بطل، يرأس الجيش، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، مدنى يرأس عسكريا لأول مرة. وهو ما لا يرتاح إليه لا الرئيس ولا العسكرى ولا المواطن العادى. وهو لدى حماس وعند حزب الله ولدى الأتراك والإيرانيين بطل لأنه يتحدث باسم الأمة الإسلامية وليس باسم الدولة الوطنية من تقسيم سايكس- بيكو. فلا فرق بين المصرى والفلسطينى والإيرانى والتركى والماليزى والإندونيسى والصينى، فالإسلام يجمع الكل. وهى نظرية الدوائر الثلاث التى أرسى دعائمها حسن البنا، مصر والعروبة والإسلام. فالمصرى من مواليد القاهرة، إذ لابد أن يكون له موطن. ولغته العربية، فالعروبة هى اللسان. وكل من تكلم العربية فهو عربى. والإسلام هو الثقافة التى تجمع الكل. لا فرق بين مسلمين وأقباط ويهود عرب. وهى الدوائر الثلاث التى أبرزها عبد الناصر فى «فلسفة الثورة» مضيفا إلى الدائرة الثالثة أفريقيا. كما أن أردوغان بطل عند المسلمين وخائن لدى العلمانيين. ويندهش الناس لاشعوريا وإن لم يعبروا عن ذلك، كيف برئيس من القفص إلى القصر ثم من القصر إلى القفص من جديد؟
يكون الرئيس بطلا عند البعض. ويصورونه كذلك فى أعين الناس. ويصوره البعض الآخر خائنا. ويصورونه كذلك فى أعين باقى الناس. فيحتار الناس الذين رأوه بطلا ثم رأوه خائنا، ما مقياس البطولة والخيانة؟ الموقف السياسى أم انفعال اللحظة الذى يتغير؟ ورئيس آخر بطل ضربة الطيران فى حرب أكتوبر 1973 ثم يصبح متهما وإن لم يكن خائنا. وكان رجال أعماله الذين يتعاون معهم عملاء يتاجرون بالغاز مع إسرائيل. وأبطال الحرب، رئيس هيئة الأركان ورئيس العمليات، يُطردون من الجيش أثناء الحرب ثم يظهرون فى مذكراتهم كأبطال. ورئيس بطل الحرب والسلام فى رأى البعض، وخائن وعميل فى رأى البعض الآخر. ووزير داخلية يمسك البلاد بيد من حديد باسم النظام وبعدها يظهر فى القفص متهما بعدة اتهامات. ونجل الرئيس بطل يستعد لاستلام شارة البطولة والدخول إلى القصر وراثيا ثم يظهر خائنا فى القفص والمصحف بين يديه يغطى على الخيانة. ودولة كبرى عدوة للعرب، وصديق لإسرائيل، وموردها الرئيسى بالسلاح تنقلب إلى صديق للعرب، 99.9% من أوراق اللعبة أى القضية الفلسطينية واحتلال باقى الأراضى العربية فى مصر والأردن ولبنان وسوريا فى يدها. ومازالت الأراضى العربية فى أيدى إسرائيل. والاتحاد السوفيتى المورد الرئيسى للسلاح للعرب، مصر وسوريا والعراق واليمن، ينقلب إلى عدو، يُطرد خبراؤه من البلاد، ولا يعمل إلا لصالحه. وحماس تنقلب من بطل المقاومة الفلسطينية ضد العدو الإسرائيلى المحتل إلى عدو لمصر، تسد الأنفاق بينها وبين قطاع غزة. والحديث معها يُعتبر تخابرا مع دولة أجنبية.
وحزب الله الذى حارب إسرائيل وحده وانتصر عليها بمفرده عام 2006 وحرر قبلها جنوب لبنان وفك سجن الأنصار بطل ينقلب إلى خائن عميل. وإيران التى كانت الثورات العربية ملهمة لها منذ ثورة مصدق فى 1953 وقد كان عبدالناصر يمد فدائيى خلق بالسلاح أثناء حكم الشاه والخمينى مازال فى العراق نظام معاد للعرب فى الخليج، وله أطماعه فى العراق فينقلب الصديق عدوا. وأيضا تركيا التى أرادت كسر الحصار الإسرائيلى على غزة وآثرت التحالف مع العرب والعالم الإسلامى والاتجاه شرقا بعيدا عن أمريكا وحلف الأطلنطى والاتجاه غربا. فمن الصديق ومن العدو؟
والسؤال هو: كيف تصدر الأحكام بالبطولة أو الخيانة؟ وما هى المعايير، وأمام أى قضاء، وما هى ضمانات المحاكمة، أدلتها، وشهودها، وطبقا لأى قوانين؟ واضح أنها أحكام وقتية. تتوقف على طبيعة المرحلة، ولون المذهب السياسى. وهى أحكام نسبية وليست مطلقة. لا تصدق على المستقبل. تتغير بتغير الزمان وطبقا لمن يصدرها. فعرابى بطل فى أعين الحركة الوطنية المصرية، وخائن فى عين الحاكم الإنجليزى الذى احتل البلاد. وسعد زغلول زعيم وطنى فى أعين الحركة الوطنية المصرية وعاص يستحق النفى فى أعين البريطانيين. وهو نفس ما حدث فى فرنسا بين ديجول وبيتان. فديجول زعيم وطنى يقاوم الاحتلال النازى لفرنسا. وبيتان عسكرى فرنسى يريد إنقاذ ما يمكن إنقاذه، سواء باريس كمدينة مفتوحة أو من قبل من الجنود الفرنسيين. البطولة والخيانة ربما فى الشهادة كمعيار. لا يعنى أنها أحكام نسبية أنه لا توجد معايير لهما بل تعنى النسبية توقفها على الزمان والمكان والموقف من الوطن. وهناك تاريخ وطنى للبلاد هو الذى يندرج فيه الأبطال كحبات العقد. وهناك تاريخ خيانة أيضا للبلاد لا أحد يستطيع إنكاره مثل الخونة فى الحروب، والعملاء للأعداء.