حكم محكمة جنايات المنيا الصادر، أول من أمس، وقضى بإحالة أوراق 529 متهمًا بارتكاب جرائم عنف وقتل يشيب من هولها الولدان، إلى المفتى، تمهيدًا لإصدار حكم نهائى بإعدام كل هذا العدد من البشر، فى سابقة رهيبة ولا مثيل لها.. هذا الحكم ليس عندى عليه تعليق سوى ملخّص قصة مسرحية سبق أن نشرتها هنا قبل نحو عامين.
لكن قبل أن أتركك للقصة، دعنى أقل لحضرتك أمرَين:
أولًا: العبد الفقير إلى الله من قلة قليلة فى هذه الدنيا تؤمن إيمانًا راسخًا بأن عقوبة الإعدام هى نوع من الممارسات الوحشية التى تؤكّد دراسات اجتماعية كثيرة جدًّا أن ضررها على المجتمع أكثر من نفعها، حتى عندما تكون جزاءً على جنايات وجرائم أكثر وحشية (جريمة الهجوم الدموى على مركز شرطة «كرداسة» مثالًا).
ثانيًا: حكم محكمة جنايات المنيا آنف الذكر، هو بالقطع ليس قابلًا للتنفيذ ومصيره الإلغاء حتمًا، سواء لأنه صدر غيابيًّا بحق الأغلبية الساحقة من المتهمين، ومن ثَم فإن بإمكانهم إعادة إجراءات المحاكمة فى أى وقت، أو لأنه من الناحية القانونية لا بد من رفعه إلى محكمة النقض، وهذه ستلغيه قطعًا وفورًا، لأسباب إجرائية وقانونية أظنّها واضحة وضوح الشمس.
وبعد.. هيا بنا إلى الملخص المخل جدًّا لوقائع مسرحية رائعة كتبها الروائى والمسرحى التشيلى أرييل دورفمان (رفيق مواطنه الشاعر الشهيد بابلو نيرودا)، ونُشرت فى مطلع تسعينيات القرن الماضى بعد سقوط الديكتاتور العاتى أوجست بيونشيه، وقد استعار دورفمان اسمها «الموت والعذراء» من رباعية وترية أبدعها الموسيقى النمساوى فرانز شوبرت، حملت الاسم نفسه، أما أصل أحداث هذه المسرحية التى اقتبسها المخرج السينمائى الكبير رومان بولانسكى، وحوّلها إلى فيلم عام 1992، فقد استلهم نقلها الكاتب من حادثة حقيقية أشار إليها بعض الصحف أيامها.
تدور دراما «الموت والعذراء» فى بلد خرج للتو من حكم ديكتاتورى قاسٍ، أما أبطالها فهم ثلاثة فقط، سيدة وزوجها وطبيب.. الأولى ضحية تعذيب بشع تعرّضت له فى سجون الديكتاتورية وصل إلى حد اغتصابها مرات عدة لكى تعترف على زوجها الناشط السياسى المعارض، لكنها لا تعترف بل تصمد أمام العذاب الرهيب الذى كان يتم تحت إشراف طبيب منحرف وغريب الأطوار، من عاداته الغريبة أنه كان يستمتع ويُسمع ضحاياه فى أثناء عمليات التعذيب والاغتصاب، موسيقى رباعية شوبرت.
بقيت الزوجة 15 عامًا لا تستطيع نسيان ما جرى لها وتعيش طول الوقت تحت ثقل عذاباته وآلام جراحه الغائرة، وفى مساء أحد الأيام بعد سقوط الديكتاتور وتشكيل لجنة قضائية وطنية للتحقيق فى الجرائم وفظائع القمع التى شهدتها البلاد، فاجأها زوجها (الذى هو نفسه عضو بارز فى لجنة التحقيق) بأنه يعود إلى البيت مصطحبًا معه رجلًا لم تره من قبل تعرّف عليه الزوج مصادفة عندما تعطّلت سيارته فى الطريق فوقف له الرجل وعرض بلطف مساعدته وتوصيله بسيارته، وقد ردّ الزوج بدعوته للعشاء، ثم ألحّ عليه أن لا يغادر وأن يقضى مع الأسرة الصغيرة ما تبقّى من ساعات الليل.
فى البداية، لا تكترث السيدة بهذا الضيف الغريب الذى داهم بيتها (أو سجنها) على غير انتظار، بيد أنها سرعان ما داهمتها الشكوك فى الرجل، فقد لاحظت أن نبرات صوته تشبه كثيرًا صوت الطبيب الذى أشرف على اغتصابها فى السجن.. ويتحوّل هذا الشك إلى يقين عندما انتهزت فرصة نوم الضيف واختلست مفاتيح سيارته وفتشتها، فإذا بها تعثر على شريط رباعية «الموت والعذراء»، وعندئذ وفورًا تهاجم الزوجة الطبيب المجرم النائم وتقيّده وتشد وثاقه بإحكام وقد قررت أن تجعله «سجينها الخاص» على أمل أن تفوز أخيرًا براحة القصاص بعيدًا عن بيروقراطية وبرودة لجنة زوجها الرسمية.
من عند هذه النقطة تمضى المسرحية بعد ذلك فى صراع لفظى حامى الوطيس بين الشخصيات الثلاث، بدأته الضحية عندما سألت بمرارة: كيف يمكن للمجرمين وضحاياهم أن يعيشوا مستقرين على أرض واحدة؟!.. وقد ردّ الزوج عليها، قائلًا: يا حبيبتى تذكّرى أننا جميعًا نحتاج إلى دولة العدالة والقانون التى كافحنا من أجلها، أما الضحايا أمثالك فإنهم فى أشد الاحتياج إلى راحة النفس التى أظن أن لا طريق مضمونًا يوصل إليها سوى النسيان والتسامح.