من المرويات الكثيرة التى تقال على هامش قصة مأساة عالِم الرياضيات والفلك جاليليو جاليلى (تشبه فى تراثنا تماما، من حيث الجوهر، مأساة المفكر الصوفى المنصور بن حسين الحلاج) أن هذا العالِم الفذ الذى امتد عمره من منتصف القرن الـ16 حتى منتصف القرن التالى، وبَشر الإنسانية بثورة العلم الحديث، وافتتح عصر نهضة أوروبا وقيامها من تحت ركام عصور التخلف والجهل الطويلة.. هذا الرجل النابه عظيم العقل سمع ذات مرة من أحد تلاميذه شيئا يشبه اللوم، لأنه وهو ماثل أمام محكمة التفتيش الكنسية، وتحت وطأة الخوف من تعذيبه حتى الموت، تراجع وأعلن أمام قضاة التخلف توبته، وأنكر الحقيقة التى كان قد توصل إليها بعد بحوث وتجارب علمية مضنية، وخلاصتها أن الأرض كروية، وأنها تدور دورانا مزدوجا حول محورها وحول الشمس، ومن ثم فهى ليست مساحة مسطحة ثابتة فى مكانها، والكون كله يتمركز ويدور حولها، كما تقول النظرية العقيمة التى كانت تعتمدها الكنيسة الكاثوليكية الغربية آنذاك.
ويحكى أن جاليليو تردد قليلا قبل أن يرد على لوم تلميذه قائلا بما معناه: يا بنى أرجوك راجع ضميرك، واسأل نفسك، هل إنكارى وتراجعى وأنا أمام محكمة قاسية بدل أو غير من الأمر شيئا؟! يا بنى كل ما حدث أننى تراجعت بالكلام، لأنجو من القتل والهلاك فحسب، لكن الحقيقة ستبقى، وستبقى الأرض كروية، وستظل إلى الأبد تدور، ولن يعطلها أو يؤثر فيها كلامى وكلامك أو رأيى ورأيك ورأى الكنيسة.
انتهت الحكاية التى بدأت بها، لكى تكون مقدمة تعليقى على الضجة الهزلية التى أثارها بعض من عينوا أنفسهم أوصياء على عقول الناس وأرواحهم، واختلسوا من سلطات المولى تعالى بينما هم يتحفوننا بفتاوى عجيبة غريبة تخاصم العقل، الذى وهبنا الله إياه واصطفانا وأكرَمنا به من دون سائر مخلوقاته، فضلا عن أن أغلبها (أو كلها تقريبا) يبدو فقيرا عاريا من أى مسوغ أو سند شرعى متين يستطيع النفاذ إلى عقول المؤمنين وقلوبهم.
أما أحدث هذه «الفتاوى الضرار»، فهى تلك التى أصدرها مؤخرا هؤلاء «البعض» وحرموا بها مجرد مشاهدة فيلم سينمائى يستلهم قصة سيدنا نوح عليه السلام من دون أن يجسده، إنما يكتفى كما فعل آلاف المبدعين على مر التاريخ بجوهر القصة ويحاكى الخط الدرامى الرئيسى فيها، إذ يحكى الفيلم عن رجل مثقل بالتقوى والورع، لكنه يضيق ذرعا بالخطايا والآثام التى يرتكبها الناس من حوله لهذا يدعو جموع الأتقياء أمثاله إلى هجرة مجتمع الذنوب والخطايا ومغادرته على متن سفينة كبيرة جهزها وأعدها لهذه الهجرة.
طيب ما المانع الشرعى (دعك من العقلى) وما وجه التحريم فى قصة فيلم من هذا النوع؟! لا إجابة.. لماذا؟! لسببين، أولهما أن الذين أفتوا بحرمة عرضه لم يكلفوا أنفسهم متعة (لا مشقة) التفرج عليه قبل إصدار فتواهم، والثانى أن المفتين هؤلاء سعداء جدا بأنهم هاجروا فى الأزمان الغابرة، وعبروا حدود الجغرافيا، حتى استقروا فى عصر ظلام حكم كهنة الكنائس فى أوروبا ما قبل النور والنهضة!
غير أن ما لا يدركوه ويغلقون عقولهم عن استيعابه، أن فتواهم التعيسة لن تقوى على حجب الحقائق الدامغة، ومنها أن المؤمنين لن يهجروا الفن الجميل، ولن يستسلموا لأوامر تعسفية تصدر ممن لا يملك ولا يفهم.. فقد تغيرت الدنيا، وصارت الفتاوى الظالمة المظلمة إذا نجحت فى تسويد شاشات دور السينما، فليس بإمكانها إظلام شاشات الكمبيوتر ولا حصار فضاءات الإنترنت.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.