(ما عدا السهو والخطأ).. كثيراً ما صادفتنا هذه العبارة، نقرأها في نهاية كشف حساب بنكي، أوفي فاتورةأو في تقرير مالي، وتُكتب في الإنجليزية اختصاراً (E and OE)، وهي تلخص قاعدة حضارية هامة، نابعة من يقين بأن الإنسان غير معصوم من الخطأ.
وهي قاعدة للمحاسبة وليس التسامح؛ فهي تنص على أن كل شيء -ما عدا السهو والخطأ- له عقوبة، فإذا كان الاعتذار كافياً في حالتي السهو أو الخطأ، فهو ليسكذلك عندما يخرج الأمر عن هذا النطاق، فما فوق الخطأ فعل واع يتضمن نوعاً من التربح -المادي أو المعنوي- يوقع الضرر بالآخرين –مادياً أو معنوياً- ولذلك فقد استثنته تلك القاعدة الحضارية.
في ظل هذه القاعدة، هل يجوزأننردعلىباسميوسف ونقول: (يا عم باسم، اطلع من دول، فما فعلته لم يكن سهواً أو خطأ،إنماهوفعل متعمد نابع عن منهج،وأنكتنقل حرفياً عن الإعلام الغربي-المرئي والمكتوب - وتظنأنأحداًلنيكتشفذلك؛ ببساطة لأنك تعرفأنالمصريينلايقرؤونصحفهمالعربية، فمابالكبالأجنبية!فظننت– بعقليتك المخادعة ومنهجك التربحي- أناحتمالاتانكشافالأمرمحدودةلدرجةتسمحلكبممارستهمن دونقلق، ولأطول فترة ممكنة، ولكن الطوبة جات في المعطوبة..)
هل يجوز لنا أن نحاكم باسم يوسف على نية نفترضها، رغم إعلانه عكسها! هل هناك أدلة تجعلنا نُخرج الفعل الذيبدر منهمن مساحة السهو والخطأ، إلى مساحة الفعل المنهجي، فلا يعود اعتذاره مقبولاً، فنبشره بعقوبة، ونؤكد له أنه إن لم يتم عقابه وفقاً لمعايير المهنة، فإنما سوف يتلقى وعده من المجتمع الذي لا يقبل اللعب في معاييره!
- عن أي معايير تتحدث!
- المعايير الحاكمةللشارعالمصريبالطبع.
- لن أسألك عن أي شارع مصري تتحدث، ولكن سوف أسألك بعمومية فجة: منذ متى يقيم الشارع المصري وزناً لمثلهذهالأمور؟ .. ولن أنتظر إجابتك.
فقد الشارعالمصريمنذسنينحسالمهنية، وهو لايعترفبأيةمعاييرحاكمة،سوىمايتمكنبهمنإنجاز (سبوبته) اليومية وضمان (أكلالعيش)،وهوكذلك لايتوقعمنأحدأنيحترمتلكالمعايير، بل إنه لا يُقيّم أحداً علىأساسها.
ثمةحالةمنالميوعةالكلية،هيالمعيارالرئيسي-وربماالوحيد-الحاكملتفاعلاتالشارعالمصري في السنوات الثلاثين الأخيرة -على أقل تقدير.
تغيرت حكمة المصري وتبدلت لتصبح (على ما تفرج)؛فالكليمارسكلشيءباعتباره(عتبة)إلىشيءأفضل،(سبوبة) مؤقتة هدفها الانتقال إلى (سبوبة) أفضل، وبالتالي لا تجويد، وبالطبع لا تراكم، وبالتبعية لا تسليم ولا تعليم للأجيال الجديدة.
لم يعد صاحب المهنة يعكف على تجويد مهنته لتُكسبه مكانة في مجتمع يحترم المهنيين، ولم يعد ملتزماً بأصولها أملاً في الترقي بداخلها فربما صار شيخاً لها، فما عاد المجتمع كذلك، ولا ظل لأي مهنة شيخ.
صاحب المهنة الآن (أرزقي) يمارس(الشغلانة) التي تصادفه، يُلقّط زرقه منها بينما يستعد لمغادرتها لأخرى -أكثر ربحاً أو أقل جهداً- فور أن تحين الفرصة.
وهكذا، تضيع المهن، وتضيع المعايير، فعلى أي معيار نحاسب باسم يوسف، على معيار المهنة التي لا شيخ لها، أم على معيار المجتمع الذي لا تشغله هذه الأمور!
لمتعدفيمصرمهنة تحكمها معاييرعبر آلياتمتابعة وتقييم، ولم تعد هناك مؤسسات ذات وزن ورأي مؤثر،كفيل بقبول أسف المخطئ أو ردعالمخادع، إنماهناك(سبوبات)منبتةالصلةببعضهاالبعض،لايحكمهاإطارمستمد بطريقةطبيعيةمنعاداتوتقاليدوثقافةالمكان.
هكذا الحال مع الإعلاممنذ زمن طويل، وهوما يفسر أن النماذج الصحفية والإعلامية التي نجحت تحت وطأة القبضة الحديدية للدولة، هي نفسها النماذج التي تألقت ولمعت بعد انكشاف الغطاء وانفتاح الفضاء،إنها النماذجالإعلاميةالتي لا معايير لها، التي تتخذ من المبالغةوالتحيز منهجاً للظهور،نموذجالراويالعليمالذي يعرف كل شيء، ويمارس تأثيره لإقناع الناس وليس إعلامهم،فإذا كان هذا النموذجقد ساد وتسيدمنذ الخمسينيات وما بعدها - حين كانت طبيعة الزمن تبرر ذلك-فما الذي يبقيه سيداً سائداً في هذا الزمن رغمانتفاءكلمبرراتوجوده!
الخلاصة يا سادة، خطأ كان أمسهواً، أم عمداً...باسميوسفسوف يبقى،بلربماتعلوأسهمه؛لأنه لا معيار يحكم المهنة، ولاالشارعالمصري مهتم سوى بسبوبته الخاصة، ولا عزاء لأصحاب المهن والكادحين.