كيف يصير الضحية المسكين جلادا، ويسكن صورة الذى ظلمه وعذبه، وربما يتفوق عليه قبل أن يستعير مصيره؟ هذا هو السؤال الذى حاول أبو المسرح الأمريكى المعاصر يوجين أونيل «١٨٨٨-١٩٥٣» أن يقترح له إجابة، فى واحدة من أهم أعمال هذا المبدع الكبير، ألا وهى مسرحية «الإمبراطور جونز».
فأما جونز هذا، فهو رجل غلبان من الأمريكيين الأفارقة يدعى بروتس جونز، وهو بهذه الحال لم يكن ممكنا أبدا أن يصير إمبراطورا، بل ولا حتى إنسانا عاديا «خصوصا وقت كتابة هذه المسرحية فى مطلع عشرينيات القرن الماضى»، يتمتع بكامل حقوق المواطنة فى تلك الأرض الغريبة التى استُجلب إليها أجداده الزنوج غصبا وقسرا، وظل المجتمع الذى بناه الغرباء فوقها يمارس على مدى عشرات السنين ضد هؤلاء المستجلبين وأجيال من نسلهم شتى صنوف القهر والتمييز والاضطهاد.. لكن يحدث بعد أن فر جونز من السجن الذى كان مأوى عاديا لكثير من أمثاله أن يقوده هروبه إلى إحدى الجزر المهجورة، وهناك سرعان ما يتمكن من التسلطن وينجح فى تنصيب نفسه إمبراطورا على البسطاء من أهل هذه الجزيرة الوادعة.
كان فى وسع جونز أن يعيش آمنا مرتاحا فى إمبراطوريته الجديدة البعيدة، لا سيما أنه تمكن من الفوز برضا سكان الجزيرة وثقتهم، بسبب ممارساته العقلانية فى التعامل مع الثروات الطبيعية التى تجود بها أرضهم، غير أنه رويدا رويدا أضحى ككل الأباطرة المستبدين، نهمًا متجبرًا وغارقًا فى غروره، مما سهل للقوى الخارجية التى كانت تريد الخلاص منه أن تتسرب إلى معقله، وراحت تغذى مشاعر النقمة والغضب فى نفوس رعاياه وتحرضهم للثورة عليه. وبينما أمور صاحبنا الإمبراطور تسير على هذا النحو، فإن رفيقه السابق ومعلمه القديم المدعو «سيمرز» يغريه الطمع، ويدفعه إلى محاولة مشاركة تلميذه النجيب فى كعكة مغانم الحكم، ومن ثم يتوجه للجزيرة على أمل استغلال شعور جونز بالضعف والخوف من عواصف الثورة التى كانت نذرها بدأت تهب فعلا، لكن الإمبراطور يفاجئ الجميع بمن فيهم «سيمرز» أنه لا يهتم ولا يحفل بأى شىء، وبقى على غطرسته وغروره حتى وقعت الواقعة وانفجر بركان غضب الشعب، عندئذ يكرر الهروب والفرار إلى جزيرة أخرى مهجورة يلوذ فيها بأشجار غاباتها الكثيفة.. منذ تلك اللحظة تبدأ عمليات تعقبه ومطاردته التى صاغها يوجين أونيل فى قالب سوريالى، إذ يبدو البطل كأنه هو الذى يطارد نفسه، وبينما هو عائش فى خيالاته وهذيانه، يرتد تدريجيا وبالتتابع إلى مراحل ماضيه الشخصى وماضى بنى جلدته جميعا.
تعرض المسرحية فى لوحة خلف أخرى هذه المراحل المختلفة، بادئة بمشهد يجمع جونز بالرجل الذى قتله قبل دخوله السجن، ثم نغوص نحن وهو فى الزمن أكثر، فنراه يتألق بين صفوف أجداده وهم سائرون يتخبطون فى أغلال الرق قبل بيعهم فى سوق العبيد.
وبعد ذلك نشاهده مع رفاق رحلة الذل والقهر الطويلة فوق سطح المركب الذى نقل البضاعة البشرية من موطنها الأصلى إلى الأرض الجديدة.. وأخيرا تصل السباحة الخلفية فى الزمن إلى غابة بكر تضج بالخضرة ومظاهر النماء، وبسرعة نعرف أن جونز عاد إلى وطن أجداده وهم أحرار، قبل أن يختطفهم الأشرار من إنسانيتهم ويحولونهم عبيدا.. صباح الخير.