خرجتُ من المطعم ففاجأتنى لسعة البرد، فى انتظار تاكسى لمحت شاب الدليفرى يجلس فوق (الفسبا) واضعًا سماعات فى أذنيْه يدخِّن سيجارة فى انتظار أوردر جديد، كان حضوره فاتنًا، على الأقل بالنسبة إلى مراهق كان يرى فى جلسة عمرو دياب فى البرد فوق موتوسيكله فى «آيس كريم فى جليم» بابًا لحياة صاخبة قدر ما فيها من بساطة وهدوء، ابتسم لى.. يعرفنى لكن لا يعرف لماذا هو يعرفنى؟ اقتربت منه وداعبته طالبًا منه أن «أنا عايز أعرف إنت بتسمع إيه؟»، منحنى السماعات، تحدثنا قليلا كصديقين قديمين، ثم انصرفتُ، قررت أن أقطع المشوار مشيًا بينما أردد الأغنية التى أيقظت شيئا ما فى القلب. أُحبُّ «الطيارين». يطرق بابى الكثيرون منهم، أميّز المكتئب صاحب الذقن النابتة، من المتودد بصدق، من الذى يخشى على كرامته أن تقيّم مجهوده بجنيه معدنى، من المبالِغ فى الاحتفاء بالوجبة السعيدة التى وصلت إليك، من الكلاسيكى الذى يعيد عليك ما طلبته قبل أن يسلمه لك فيخبر كل جيرانك بما ستتناوله كطعام للعشاء، من الذى يود أن يعتذر إليك عن أنه أفرط فى رن الجرس، من الذى اختبر كل ما هو سيئ فى هذه المهنة ويبدو عليه أنه لم يعد مهتما بأن تكافئه أو تلعنه. فى إحدى المرات تأخر الأوردر فقال لى الموظف «الطيار اتقلب بالموتوسيكل بس هو فى الطريق خلاص»، سألته إن كان الطيار اللى اتقلب هو نفسه اللى فى الطريق فقال: نعم، فتحت الباب له وصممت أن أعرف مدى إصابته، كانت الخدوش تملأ ذراعه اليمنى بالطول، خلع كُمّ الجاكيت دون أن يخلع ابتسامته، قال ساخرا: جايبين لنا موتوسيكلات صينى. بسيطة قالها لكنه كان يختزل متاعب كثيرة، دَعْكَ من فكرة البرد أو غلاسة أمناء الشرطة أو قلة العائد المادى... يتحمل الطيار وزر «إنه مش معاه فكة»، وأن الطعام بارد، أو أن فيه «بطاطس ناقصة»، أو تأخر الأوردر، يتلقى الواحد بالذات فى رمضان العقاب الأمثل على وصول الطعام بعد الأذان، يكسر صاحب البيت صيامه على الطيار قبل أن يفكر لثانية مثلا أن الطيار نفسه صائم وربما من اللائق أن تكسر صيامه ولو ببعض الماء. سألنى إن كان الأوردر مضبوطا، فقلت له «وافرض مش مظبوط؟». الإنسان أصله طيار، وكل واحد فينا يعمل دليفرى ويتقاضَى أجرا مقابل ذلك، مجرد ناقل للنعمة من مصدرها إلى مستحقها، الطبيب دليفرى ينقل الشفاء من صاحب قرار الشفاء إلى المريض، الكاتب دليفرى يوصل الأفكار لمن يطلبها، ضابط الشرطة دليفرى يحمل الأمن لمن هو بحاجة إليه، كلنا يوصل بعضنا إلى بعض أشياء لا نمتلكها، قد يراها الواحد متفاوتة القيمة من بعيد، لكن بنظرة قريبة يكتشف أنها كلها مهمة، فما أرسلت فى طلبه الآن هو الأهم فى حياتك فى هذه اللحظة لأن حياتك لن تستقيم بغيره حتى لو كان مجرد ملح للطعام. كان الواحد يعتقد أنه يقدم (البقشيش) للطيار، لكن إذا ما اعتبرنا كل إنسان طيارا ستفهم أن ما يتقاضاه عامل الدليفرى أجر مستحق لأنه يقوم بشىء لا تستطيع أنت أن تقوم به. فى أثناء السير فى البرد مرّ بى كثيرون منهم، كان الوقت متأخرا، وكنت أتمنى لهم أن يصلوا فيجدوا فى انتظارهم شخصا يعرف قيمة ما يفعلونه، بينما الأغنية التى أسمعنى إياها الطيار تدور فى رأسى وعلى لسانى ولا شىء غيرها «يادى يادى يادى المشاعر.. يادى المشاعر».
عمر طاهر يكتب: فى مديح الطيارين
مقالات -
عمر طاهر