من العوامل الأساسية للنجاح فى إدارة الأزمات بشكل عام اتخاذ الإجراءات الاستباقية الضرورية لمنع تفاقم الأزمة والتقليل من آثارها بقدر الإمكان، ومن هنا كان تقديرى الشديد لما قامت به قوى الأمن المصرى الأسبوع الماضى من ضربه استباقية لواحدة من أهم البؤر الإرهابية، وعلى الرغم من أننا فقدنا فى هذه العملية بعضا من أشرف الرجال وأعزهم، إلا أن استشهادهم بالتأكيد قد افتدى عشرات وربما مئات من الأرواح البريئة التى كان يمكن أن تكون ضحايا الإرهاب الأسود.
إننى أسوق هذا المثل كنموذج للإجراءات الاستباقية التى يجب أن يعيها رئيس الوزراء لمنع تعاظم الأزمات واتساع مداها، والتى لن يجدى معها تصريحات نارية ولا زيارات ميدانية إن استفحلت وتعقدت. أقول هذا بالتحديد فى موضوع الرعاية الطبية التى تُقدم للغالبية العظمى من الشعب المصرى وهم الفقراء ومتوسطو الحال، الذين لا حيلة لهم إلا اللجوء إلى وحدات الرعاية الصحية والمستشفيات الحكومية إذا ما داهمهم المرض أو ألمت بهم الحوادث.. أنا أعلم بخبرة سنين طويلة فى العمل بالحقل الطبى، وأظن أن السيد رئيس الوزراء أيضاً يعلم بحكم طريقته فى العمل التى تعتمد على النزول إلى أرض الواقع والتعامل المباشر مع الناس، أن منظومة الرعاية الصحية التى يحيا فى ظلها عشرات الملايين من المصريين هى فى أسوأ أحوالها تدهوراً وانهياراً هذه الأيام، لأسباب كثيره تراكمت على مدى عقود، وزادت حدتها فى الأعوام الثلاثة الأخيرة نتيجة التخبط السياسى والجهل بأصول المشاكل نتيجة عدم إعطاء ملف الصحة ما يستحقه من اهتمام ورعاية، كان أحد مظاهره المؤسفة تعاقب سبعة وزراء على تولى حقيبة وزارة الصحة فى هذه الفترة! ويعلم القاصى والدانى أن أحد أهم أسباب هذا التدهور والفشل الوزارى هو أن الفريق الطبى أو مُقدمى الخدمة الذين يعملون بالجهات الحكومية – وعلى رأسهم الأطباء – يتقاضون رواتب لا تختلف بل تقل أحياناً عما تتقاضاه عاملات النظافة والخدم فى البيوت، وأنها لا تصل إلى الحد الأدنى الذى يمكن أن يوفر معيشة محترمة أو مظهراً لائقاً لهم.. ويعلم رئيس الوزراء بلا شك أن زمن العمل بالسخرة والإكراه واستخدام أساليب التهديد والوعيد قد ولى بلا رجعة، وأن كل مناشداته وكلماته العاطفية من أمثلة «استحملوا وحبوا بلدكم ومهنتكم مهنة إنسانية» إلى آخر هذا الكلام، يدخل من أذن ويخرج من الأخرى دون أن يمر على العقل لأنه بالتأكيد سيلفظه، ولا جدوى حقيقية منه. ليعلم السيد رئيس الوزراء ومن معه أن عملاً سريعاً استباقياً منهم يجب أن يتم بإعادة توزيع موارد الدولة أو إيجاد وسائل مُبتكرة لتنميتها من أجل توفير التمويل المالى اللازم لتطبيق كادر جديد مُستحق للأطباء والفريق الطبى المعاون، يكون حده الأدنى ما اتفق عليه سابقاً مع نقابة الأطباء.
هذه مسؤوليتكم بالدرجة الأولى وليست مسؤولية الأطباء أن تجاوب عن السؤال السخيف «نجيبلكم منين؟» وإذا لم تكن لكم إجابة سوى كلمة «مافيش»، فلتتحمل أنت ووزراؤك المسؤولية كاملة عن انسحاب عشرات الآلاف من الأطباء من العمل الحكومى بتقديم استقالات جماعية، وبالتأكيد فإنهم لن يخسروا كثيراً بفقدان الملاليم التى يتقاضونها الآن، والتى يمكن تعويضها بسهولة من مصادر أخرى أو بالسفر خارج البلاد لأنهم أصحاب مهنة مطلوبة وحيوية ومُقدرة. ربما لا يهمك ذلك باعتبار أن ما يقرب من 75% من الإنفاق الصحى فى مصر يخرج من جيوب المواطنين، فلا يهم أن تتقلص نسبة ما تصرفه الدولة بتوفير رواتب الأطباء! إن مصداقيتكم أنت وحكومتك على المحك، وهذا الملف وأعنى به رواتب مقدمى الخدمة الطبية هو البداية، إذا كان لديكم اهتمام حقيقى بصحة المواطنين خاصة محدودى الدخل منهم والفقراء.. اللهم بلغت.. اللهم فاشهد.