يملك المصريون قدرة مذهلة على أن يجمعوا بين البكاء والضحك، وبين الجد والهزل، وبين الاهتمام بالمسائل الكبرى والانشغال بسفاسف الأمور، والزمن لديهم يتوزع بين ساعتين «ساعة لربك.. وساعة لقلبك»، يستغفرون الله فى الأولى، وقد يبكون ندماً على ما ارتكبوه من معاص، ويضحكون فى الثانية، وقد يعودون لارتكاب المعاصى نفسها، فإذا ضحكوا قهقهوا حتى تطفر الدموع من أعينهم، ثم قالوا: اللهم اجعله خيراً، وكأنهم يوقنون بأن المسرة سوف يعقبها هم، وكانت أمى - رحمها الله - إذا رأتنى حزيناً مهموماً تضمنى إلى صدرها، وتطالبنى بأن أبكى حتى أزيل ما يثقل على صدرى من هموم، وكأن البكاء يجلب الفرج والفرح.
وسط تلال المصاعب التى يواجهها المصريون هذه الأيام، وبين زحام من أخبار السوء، التى تترى كل صباح، تنعى إليهم استشهاد أفراد من الشرطة والقوات المسلحة، طالتهم رصاصات ومتفجرات الإرهابيين، وانقطاع الكهرباء، وتراكم القمامة فى الشوارع، وارتفاع الأسعار بلا ضابط ولا رابط ولا رقيب ولا ضمير، وارتباك المرور، وهطل المواصلات العامة، يعيش المصريون - كما عاشوا على امتداد سبعة آلاف عام - حياتهم العادية: يعيشون جنازات الشهداء، ويودعون الموتى من ذويهم وأصدقائهم بالدموع والدعاء، ثم ينصرفون - بعدها أو قبلها - إلى قضاء أشغالهم، فيضربون فى مناكب الأرض، يتحايلون على المعايش، التى أصبحت ضنينة، والنقود التى قلت بركتها، والجنيه الذى تحول إلى قرش صاغ، وينحتون فى الصخر حتى يظل الموقد فى بيوتهم مشتعلاً والإناء ملآن والخبز متوفراً، ويتكيفون بمهارة وبرشاقة اجتماعية لا نظير لها مع صعوبات المرحلة، ومع ذلك تظل لديهم القدرة على الفرح، فتلعلع الزغاريد فى أعراسهم وفى استقبال مواليدهم، وتتصاعد القهقهات فى جلساتهم، ويجدون وسط هذه الهموم الثقيلة وقتاً للانشغال بقضايا سياسية جادة من المناظرة حول موعد إجراء الانتخابات الرئاسية، وحول أسماء المرشحين المحتملين لها، إلى ما يجرى فى سوريا، وما يجرى من قطر، وما سوف يسفر عنه الشد والجذب بين أمريكا وروسيا حول أوكرانيا، ويهربون منها أحياناً إلى المناقشة حول موضوعات قد لا تكون بنفس الدرجة من الجدية، وقد تصل إلى حد الهزل من البرنامج الذى يقدمه «باسم يوسف» والمقال الذى نقله عن الكاتب الصهيونى «بن جودا» إلى مشكلة المطالبة بمنع فيلم «نوح» من العرض فى دور السينما، ومن حركة تنقلات مقدمى برامج «التوك شو» بين الشاشات، إلى قضية إثبات النسب التى رفعتها الفنانة «زينة» ضد الفنان «أحمد عز»، لا لكى يهربوا من واقعهم، ولكن لأن هذه طبيعتهم التى تجمع بين الجد والهزل، وبين البكاء والضحك، ولأنهم تعودوا أن يستشهدوا كلما مرت بهم شدة، كالشدة التى يمرون بها هذه الأيام، أن يستشهدوا بالمثل الشعبى الذى توارثوه من تجارب أسلافهم، والذى يقول «ياما دقت ع الراس طبول»، تعبيراً عن ثقتهم بأن كل شدة سوف تزول، وبأن الوقت سوف يأتى قريباً لكى ينتصروا فى معركتهم ضد هذه الموجة من الإرهاب، كما انتصروا على مثيلات لها من قبل.
على هامش الجد الذى نواجهه، رأيت أن أتوقف هذا الأسبوع أمام قضية تجمع بين الجد والهزل وبين الضحك والدموع، أثيرت خلال الأسبوعين الأخيرين، واجتذبت الرأى العام للاهتمام بها، ربما لأنها تنويعة على قضايا مماثلة تكررت - ربما بالتفاصيل الأساسية نفسها - خلال العقدين الماضيين، وربما لأن الناس تريد أن تخفف من ثقل الهموم التى تعانيها.
تلك هى قضية الفيلم العالمى «سفينة نوح» الذى سوف يعرض هذا الأسبوع فى عدد من بلاد العالم، من بينها دول إسلامية، يفترض أن يكون من بينها مصر، التى أثار فيها طلب تقدم الشركة المنتجة إلى الرقابة على المصنفات الفنية لعرضه، حملة من الاعتراض ضد السماح بعرضه، شنها عدد من رجال الدين الإسلامى، تصاعدت إلى الدرجة التى دفعت أحدهم إلى التهديد بحرق دور السينما التى قد تعرضه، وكأن الإرهابيين ينقصهم أن ينضم إليهم عضو آخر بهيئة كبار العلماء، غير فضيلة الشيخ «القرضاوى»، أو كأن البلد ينقصه المزيد من حرائق الإرهابيين.
والمنطق الذى يستند إليه الذين هددوا بالويل والثبور وعظائم الأمور، من الهيئات والأفراد الذين أصدروا بيانات شجب وإدانة عرض الفيلم، ينطلق من أنه يجسد صورة أحد أنبياء الله الخمسة، من أولى العزم، وهم «نوح» و«إبراهيم» و«موسى» و«عيسى» و«محمد»، عليهم السلام، وهو ما يشكل خروجاً على قرار سبق أن أصدره «مجمع البحوث الإسلامية» منذ سنوات بتحريم إظهار صور أنبياء الله جميعاً - وفى مقدمتهم بالطبع الأنبياء الخمسة أولو العزم - والخلفاء الراشدين الأربعة، والعشرة المبشرين بالجنة، والصحابة، رضوان الله عليهم جميعاً.
والمشكلة الأولى التى تثيرها هذه الصحف أن أحداً من الذين أثاروا هذه الضجة، واندفعوا يهددون بحرق دور السينما، ويسعون - بذلك - إلى تحويل «هيئة كبار العلماء» إلى «هيئة إشعال الحرائق» لم يقل إنه شاهد الفيلم، وتثبت من أنه يسىء إلى النبى نوح، أو حتى يجسده، بل إن البيان الذى أصدرته «هيئة كبار العلماء» واعترضت فيه على عرضه، لم يشر إلى أن الهيئة قد شاهدته، أو انتدبت بعضاً من أعضائها لكى يشاهدوه، ويقدموا لها تقريراً عنه يكون أساساً لهذا الاعتراض، الذى استندت فيه إلى أن عرض الفيلم يشكل «مخالفة للشريعة الإسلامية».
وهذه أول مرة أعرف فيها أن الشريعة الإسلامية - فى مصدريها الرئيسيين وهما القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، أو حتى فى مصادرها الفرعية وهى كلها بشرية - تتضمن نصوصاً تتعلق بأفلام السينما، أو تحرم تجسيد الأنبياء أو الخلفاء الراشدين أو آل البيت أو الصحابة الذين يزيد عددهم - كما تقول كتب الطبقات - على ثلاثة آلاف صحابى، وما أعرفه، ويعرفه الجميع، أن كل ما يتعلق بهذا الشأن، هو اجتهاد فقهى عصرى، وتطور مع الزمن نحو التشدد، وتوسيع دائرة حظر تجسيد الشخصيات الدينية المقدسة، التى كانت تقتصر طبقاً لفتوى الأزهر التى صدرت عام 1926 على تجسيد شخصية النبى محمد، عليه الصلاة والسلام، إلى أن شملت كل الأنبياء.
أما المشكلة الثانية فتكمن فى أن فيلم «آلام نوح» - على العكس مما يقول الذين طالبوا بعدم عرضه دون أن يشاهدوه - لا يجسد شخصية النبى «نوح»، ولكنه - كما صرح بذلك عبدالستار فتحى، المسؤول عن مراجعة الأفلام الأجنبية بالرقابة على المصنفات - لا يروى سيرة حياته ولا يشير إلى أن بطله هو النبى نوح، ولكنه يتناول شخصاً صالحاً اسمه «نوح» ضاق بما يجرى حوله من فساد وما يرتكبه الناس من أخطاء وخطايا، فقرر دعوة الصالحين من أمثاله للهروب من هذا العالم الموبوء فى سفينة ضخمة أعدها لهذا الغرض، دهمها فى عرض البحر طوفان، وهى فكرة قد يكون قد استلهمها من قصة النبى نوح أو من أفكار «جماعة التكفير والهجرة» التى كانت تدعو أتباعها للهجرة بأجسادهم، أو على الأقل الانعزال الشعورى من مجتمعاتهم، هرباً من إغراءات الشر والفساد التى تحيط بهم، ليقيموا فى الصحراء مجتمعاً خالياً من الشر.
نحن إذن أمام فيلم يستوحى القصص الدينى الوارد فى الكتب المقدسة، والذى كان مصدراً أساسياً من مصادر الأعمال الدرامية، بل هو أصل نشأة الدراما بمختلف أشكالها، وكان يكفى صناع الفيلم أن يفعلوا كما فعل المخرج الكبير الراحل يوسف شاهين عندما اعترض الأزهر على سيناريو فيلم «يوسف الصديق».. ولما تفاقمت الأزمة استجاب «يوسف» لنصيحة أحد أصحاب الفضيلة شيوخ الأزهر، بأن يغير اسم الفيلم واسم أبطاله، حتى يمر السيناريو، فغيّره إلى «المهاجر» وغير اسم البطل إلى «رام» وغيّر أسماء بقية الأبطال.. ولايزال بعد عشرين عاماً من عرضه، يشاهدونه باعتباره فيلماً عن النبى يوسف الصديق، ولم نسمع أن أحداً قد اهتز إيمانه لأنه شاهده، أو شاهد غيره من الأفلام والمسلسلات التى تجسدت فيها الشخصيات الدينية المقدسة والتى تتالى عرضها خلال السنوات الأخيرة، ولم يعد باستطاعة أحد أن يحول بين الناس وبين مشاهدتها فى زمن السماوات المفتوحة والعقول المفتوحة!
والحل الموفق السعيد، إذا انصاعت الرقابة إلى تهديدات الذين يطالبون بعدم عرض الفيلم، هو أن يلجأ صاحب حق توزيعه إلى تغيير اسم النسخة التى ستعرض منه فى مصر، إلى «السفينة»، ويغير اسم البطل فى شريط الترجمة إلى «صالح».. ثم يقهقه ضاحكاً ويقول: اللهم اجعله خيراً!