طيف ملائكى، فى ثياب خضر، ربت على كتفى أن أستيقظ، توفيت أمى قبل عامين على مقربة من العيد الكبير، مرضت بعد العيد الصغير، بين العيدين توثقت علاقتنا، كانت مريضة وكنت تحت قدميها مبلسماً آلامها، كانت تهش وتبش لمقدمى مستبشراً بشفائها حتى نرجع إلى بلدتنا الصغيرة، نلهو نضحك، ونحكى السبع كلمات.
ما بينى وأمى سبع كلمات عذاب، خفيفات على اللسان ثقيلات فى الميزان، كلمات خير وفى الخير، يرحمها الله ويطيب الثرى الذى توسدته، كانت توصنى بالصبر والصلاة، وارتداء الملابس الداخلية بالمقلوب خوفا من الحسد، كانت تهدهدنى دلعا بأغان عذاب، تنساب من فمها النغمات جدولا، رقراقاً ملوناً بألوان قوس قزح معبقا برائحة الحقول فى البكور، وندى عطفها يبلل الأرض الشرقاى إلى الحب.
كانت طيبة وجميلة، سمراء، نيلية، دمها شربات، واسمها رجاء، رجاء من الله أن يرحمها بحق طيب أعمالها، كانت رقيقة، حنون، عطوف، وتطعم الطعام على حبه مسكيناً وفقيراً ويتيماً، ضربات قلبها الموجوع تسابق خطاها نحو البيوت النائمة، تخبط أبواب يفتحها الله برزقه، كان الرزق وفيراً، والبركة فيما رزق، ويضاعف لمن يشاء بغير حساب.
كانت بلسماً شافياً ككل الأمهات، كانت حضناً دافئاً، تتذكرون الأمهات الطيبات الصالحات، كل أمهات العالم هى أمى، كل أمهاتكم هى نسخة طبق الأصل من «أم مجدى»، كانت تتسمى باسم الكبير، هكذا درج عليه أهل الريف، وصارت أم مجدى، الحاجة، هكذا ينادونها، نسوا اسمها، لكنها كانت رجاء، تترجى من الله أن يرحمها ويهبها ما كانت تصبو إليه من جيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
أحببتها حبين، حبا لأنها من حملتنى وهناً على وهن، وحبا لأنها أهل لذاك، أما الذى هو حب الهوى، فعشقتها، لا تبارحنى فى صحوى ومنامى، أما الذى هو أهل لذاك لأنها كانت تحب طين هذا البلد الأمين، لم تغادره قط إلا لزيارة الحبيب صلى الله عليه وسلم، ادخرت ما استطاعت إليه سبيلا، وحجت بيت الله الحرام واعتمرت، وكانت دعواها أن الحمد لله رب العالمين.
مثل كل الأمهات كانت تصبح بكلمات معسولات، «صباح الخير وأنا بصبح يا ورد الجنانين فتح».. هكذا كانت تحفظ النشيد، وتحفظ معه أبياتا من شعر مجهول «ولما قالولى دا ولد.. اشتد ظهرى واستند..»، وعن ابن عروس تتغزل فى صبية سمراء ترنو نحو المغيب، يا بت يا أم الشعر الأحمر لميه، وزودى له من العطر ياما، دا الفارس اللى انتى قتلتيه يا بت، صبحتى عياله يتامى.. وتغرق فى ضحك كشقشقة العصافير، صوت قرقرة القلة مزودة بماء الورد المنعش اللطيف.
(مقطع من مرثية السبع كلمات منشورة فى وداع أمى).