
قال الملحن الشهير إن السيسى هو صاحب أعلى المقامات الموسيقية، بينما حمدين صباحى نشاز، لأنه يردّد نغمة أخرى، أفهم أن حمدين كمرشح لدينا عليه تحفظات عديدة، ولكن لا يعنى ذلك أنه نشاز، لأنه سيترشّح ضد السيسى، كما أن وصف السيسى بأعلى المقامات بعد تلك المقارنة لا يخلو من نفاق صارخ. سألوا أكثر من مطرب هل تُغنّى للسيسى؟ كانت الإجابة النموذجية هى الأداء العملى «تسلم الأيادى والسيسى رئيس بلادى»، قبيلة يا ليل يا عين إلا قليلًا يدرّبون الآن أحبالهم الصوتية لكى يدخلوا إلى ساحة الوغى وكل منهم فى حالة استعداد قصوى، رافعًا ومشهرًا صوته من جواب الجواب إلى قرار القرار. إلا أن السؤال:
هل الناس لا تزال تنتظر مثل هذه الأغنيات وما الخط الفاصل بين الغناء والنفاق؟ هل الرؤساء الآن فى حاجة إلى أغانٍ تُشيد بهم أم أن هذا زمن قد ولّى؟.. بدأت القطرات الغنائية تنهمر على المشير انتظارًا للغيث القادم لا محالة. فى التاريخ تكتشف أن مصر الفرعونية كانت تغنى أيضًا للحاكم قبل خمسة آلاف عام، لم يعرف تاريخنا حاكمًا قال لا، الكل فى العادة يقول هل من مزيد، يعتقد البعض مثلًا أن اللواء محمد نجيب نظرًا إلى قصر مدته فى رئاسة مصر لم تتجاوز فعليًّا عامين، فلم يغنِّ أحد باسمه، إلا أننى عثرت على مونولوج بصوت إسماعيل ياسين يقول فى مطلعه «الجيش ونجيب عملوا ترتيب»، حيث إنه فى بداية ثورة 23 يوليو لم يكن تعبير ثورة قد أطلق عليها بعد وتحيّروا فى وصفها «انقلاب» أم «ترتيب» أم «حركة» أم «حركة مباركة»، قبل أن يستقروا على تعبير «ثورة» المنسوب إلى عميد الأدب العربى طه حسين. فى تداعيات الظروف السياسية التى عاشتها مصر فى الأسابيع الأخيرة تعدّدت الأغنيات التى يبثّها مختلف الإذاعات والفضائيات، أصبحت الفرصة مواتية لكى نقارن الغناء الوطنى من زمن الملك فاروق إلى زمن المشير السيسى، مرورًا بالسادات ومبارك.
بالطبع فى أثناء عام مرسى عندما كان على الكرسى لم تكفِ المدة القصيرة للغناء، ولكن المؤكد أنهم كانوا سيفعلونها، تابعوا ماذا قالوا وقتها بعد لقائهم به فى بداية حكمه وكم الإشادة التى تبارى الجميع فى بثّها وعلى مختلف القنوات وبكل الإيقاعات. فى حقبة مبارك والتى دامت 30 عامًا كانت الدولة تجنّد كل قواها الفنية والإعلامية من أجل العريس، أقصد الرئيس المخلوع، حيث كان وزير الإعلام الأسبق صفوت الشريف، يطلب فى كل احتفالية أن يدلّعوه، تحوّلت أغانينا الوطنية إلى طبل وزمر ورقص وهتاف على طريقة الأوبريت الشهير «اخترناه اخترناه»، وأخيه التوأم الأقل شهرة «عايزينك من غير انتخابات». كان السادات أقل نهمًا فى هذا الشأن، ولكنه لم يصل إلى مرحلة الزهد، فلقد تبارى مؤلفو الأغانى فى اللعب على كلمتى أنور والسادات بما تحمله من تداعيات، إلا أنه فى أشهر أغنية واكبت انتصار أكتوبر «عاش اللى قال» كان الكورال يردّد فى أول تسجيل بدلًا من «عاش عاش عاش» اسم أنور ثلاث مرات،
ولكنه طلب بعد أن استمع إلى البروفة من عبد الحليم وبليغ حمدى ومحمد حمزة، إعادة تسجيل هذا المقطع وحذف اسمه. أكثر الزعماء -ربما فى تاريخ البشرية- الذين غنّينا لهم هو بالتأكيد جمال عبد الناصر، أتذكّر أننى سألت الإذاعى الكبير الراحل جلال معوض، الذى كان قريبًا من دائرة الحكم طوال العهد الناصرى، فقال لى إن جمال كان يضج من كثرة هذه الأغانى،
ولهذا فى أحد الاحتفالات الوطنية كانت التنبيهات صارمة على الجميع، وهى إياكم والغناء باسمه، التزم الجميع ثم جاء دور المطرب محمد الكحلاوى الذى كان كعادته يردّد بعضًا من أغانيه الدينية، وفجأة غيّر فى الكلمات، وأضاف اسم ناصر، ومن بعدها انفلت العيار!! عندما سألت الموسيقار الكبير كمال الطويل وهو على الأقل صاحب 90% مما ردّده عبد الحليم حافظ من أغنيات وطنية، أجابنى بأنه لم يشعر ولو لحظة واحدة أنه يلحّن لعبد الناصر ولكن للوطن الذى تجسّد فى ملامح ناصر. الزمن تغيّر واتسعت الرؤية ليصبح الوطن هو حدقة العين ودفقة القلب وليس الزعيم المقدس الملهم صاحب أعلى المقامات، ولكن «تقول لمين»!!