
غَنِىّ عن البيان، كما أنه أمر بات واضحًا فاضحًا يراه كل مَن فى عينيه بصر، أننا نكابد ونعانى منذ انطلاق ثورة 25 يناير حتى ساعة تاريخه، من ظاهرة الثورجية العُبْط -دعك من المدَّعين الكذَّابين- الذين من فرط الحماس المعجون بالجهل والخيبة ألغوا عقولهم وسلَّموا أنفسهم لعفريت أحمر ركبهم ودلدل رجليه، وبدل أن يتخلصوا منه بالثقافة والقراءة والوعى أفرطوا فى تدليله وتدليعه والاحتفاء به يوميًّا بإقامة «حفلات زار ثورية» غابوا فى صخبها وضجيجها عن أهلهم وشعبهم مما سهل لعصابة الشر الإخوانية الفاشية أن تنجح فى نشل الثورة الحقيقية وتجريدها من أهدافها النبيلة تحت ستر ظلام عقول الثورجية هؤلاء، لهذا توسل المصريون بثورة ثانية عارمة (فى 30 يونيو الماضى) لكى يستعيدوا ثورتهم الأولى من ناشليها الأشرار. هؤلاء الثورجية العُبط نوعان:
أولهما يمين أهبل إلى درجة البذاءة، والنوع الثانى بدأ المنخرطون فيه من مواقع اليسار، لكنهم، بسبب التفاهة -ممكن تستبدل بها «العاهة العقلية»- والضحالة الفكرية مضافًا إليهما العُقَد الطبقية، استستهلوا التطرف العدمى الذى سرعان ما جرجرهم يمينًا حتى استقرُّوا حاليًّا فعلًا فى قلب خنادق الفاشية والإرهاب حيث تتمترس أحطّ وأبشع قوى اليمين وأكثرها توحُّشًا وظلامًا. وبهذه المناسبة التعيسة تحضرنى الآن حكاية «درامية» ذات مغزًى عميق سَمِعتُها من أستاذنا وعمنا الراحل الكبير محمود السعدنى. يحكى عمنا المتفجر بالموهبة والثقافة الرفيعة المخلوطة بتاريخ حافل من الصعلكة، أنه فى صباح يوم رائع من أيام الاعتقال الطويلة فوجئ بعدد من زملائه المعتقلين يقتحمون عليه زنزانته وقد ارتسمت على وجوههم سمات الصرامة والجدية، ثم أبلغوه باقتضاب شديد وبلغة قاطعة مانعة بأن الرفاق القادة اجتمعوا واتخذوا قرارًا ثوريًّا تاريخيًّا يقضى بضرورة تحدى إدارة المعتقل ومواجهتها مواجهة حاسمة عن طريق الدخول فورًا فى إضراب مفتوح عن الطعام، فلما سألهم عمّ محمود عن الهدف والسبب، قالوا له بالصرامة نفسها «لأننا نريد أن ننتزع من الإدارة (مكاسب) من شأنها تطوير وتحسين أوضاع معيشتنا فى السجن».
ولأن عمنا السعدنى لَجُوج ويستعصى على تلقِّى الأوامر وتنفيذها دون أن يفهم ويقتنع، فقد عاد لسؤال الرفاق عن نوع هذه «المكاسب» التى يتطلب الحصول عليها استخدام أخطر سلاح يملكه المسجون، ألا وهو الإضراب عن الطعام حتى الموت. باشمئناط ونفاد صبر ردّ الرفاق
«إحنا عايزين الإدارة تضع لنا (كوزًا) فى دورة المياه»، فعلَّق عم محمود قائلًا «طيب يا اخواننا، ألا يكفينا من المكاسب فى هذه المرحلة التاريخية الدقيقة هذا «الكوز» المفتخر الذى نشرب فيه الآن الشاى فعلًا، ونؤجل المطالبة بـ(الكوز) بتاع دورة المياه إلى مرحلة تاريخية دقيقة مُقبِلة؟!»، فكان أن انبرى أحدهم هاتفا بمنتهى الحماس «لأ طبعًا.. (كوز) دورة المياه أهمّ وأخطر، وهو مكسب ثورى عظيم يستحقّ أن نبذل ونضحِّى من أجله بكل غال ورخيص»! أُسقِطَ فى يد عم محمود واضطُرَّ إلى الانصياع لأمر الرفاق قائلًا لهم «طيب على البركة، نتوكَّل على الله ونصوم وننتظر (المكاسب) لما تيجى»! يمضى عم محمود فى سرد حكايته مؤكدًا وهو يقسم بأغلظ الإيمان،
أنه «ما إن أعلن الزملاء الثوريون عن الإضراب وأبلغوا إدارة السجن بقائمة (المكاسب) التى يحتلّ (الكوز) رأسها، حتى بدأ شتى أنواع (المكاسب) ينهال بغير رحمة على رؤوسنا جميعًا، ابتداءً من الحبس الدائم فى الزنازين والحرمان من الفسحة والتسكُّع طول النهار فى فناء السجن، وانتهاء بالمعاملة الخشنة والضرب وسحب (الأكواز) التى كنا نشرب فيها الشاى، بل ومصادرة الشاى نفسه، وهو ما دفعنى» هكذا يقول السعدنى «للصراخ بحرقة من طاقة باب الزنزانة المغلق: أرجوكم يا رفاق، أبوس إيديكم وأيادى أهاليكم.. كفاية والنبى (مكاسب) لحد كده.. خلاص شبعنا واستوينا من (المكاسب) بتاعتكم)!». انتهت حكاية عم محمود السعدنى،
ورغم أن العبد الفقير إلى الله كاتب هذه السطور ليس متأكدًا تمامًا من دقتها التاريخية، فإننى أجد نفسى مضطرًّا الآن إلى أن أستعير صرخة عمنا محمود نفسها وأهتف: والنبى يا ثورجية كفاياكم «ثورجة» عبيطة.. خلاص شبعنا واستوينا، وأخشى أن «كوز» الثورة على وشك «الانخرام» التامّ، وقد يتسرب ويتسرسب منه ما تَبقَّى من أهدافها.