توقف قطار مترو الأنفاق لبعض الوقت في محطة الشهداء. عشرات يقفون في انتظار إغلاق باب المترو ليدخلوا العربات بقوة الدفع. مراوح متعطلة تزيد الأجواء سخونة واختناقًا. باعة جائلون يمارسون عملهم المرهق الذي دفعتهم إليه البطالة وضيق ذات اليد. متسولون وأطفال شوارع يستعطفون الركاب لمنحهم أي شيء. وفي أقصى العربة يقف بعض الركاب حول شاب ملتح يتحدثون معه بحدة عن أن مرسي لن يعود وأن الإخوان لن يروا النور مجددًا، ويحدثهم بترفق عن أن الأمر ليس متوقفًا على الإخوان وأن تطبيق شرع الله ليس اختيارًا.
مشهد حقيقي يلخص الوضع في مصر التي ترك أهلها فقرا ينهشهم وجهلا يؤخرهم وأمراضا تقتلهم وفسادا يسرقهم، وتفرغوا للحديث عن مرسي والسيسي والإخوان والفلول، والمفاضلة بين الفاشية الدينية والفاشية العسكرية.
***
الذين يجمعهم الفقر داخل عربات المترو وفي طوابير الخبز وأمام شبابيك العلاج، تفرقهم السياسية في معركة إن كانت لها مكاسب سيجمعها غيرهم، والذين طالبوا النخبة مرارًا بترك القضايا الفوقية والنزول إلى الشارع، تركوا هم الشارع وصعدوا بأرجلهم إلى القضايا الفوقية، والذين كنا نرجوهم قبل سنوات ألا يشغلهم الفقر عن السياسة نقبل رؤوسهم الآن حتى لا تشغلهم السياسة عن الفقر.
يكره مؤيدو السيسي أنصار الإخوان، ويكره أنصار الإخوان مؤيدي السيسي، ويكره الاثنان الواقفين في المنتصف، وتحولت السياسة من تنافس بين الحكام لخدمة المحكومين، إلى حرب بين المحكومين لخدمة الحكام.
تسببت السياسة في تعطيل الدراسة وفي تدهور السياحة وفي تراجع الاستثمار وفي تشرد العمال وفي توقف الدوري، لأنه بينما نعتقد أننا نمارس السياسة، يسمي الغرب الأمور بمسمياتها: مصر في حالة حرب.
نحن لا نعرف الحلول الوسط، تطرُفنا في تجاهل السياسة أضاع مصر لعقود، وتطرُفنا في حبها سيضيع مصر لقرون.
***
«من بين المحتجزين كان هناك أطفال في الثالثة عشرة والرابعة عشرة من عمرهم، أبرزهم ثلاثة كانوا في ميدان التحرير يرفعون صور السيسي وخرجوا من الميدان فساقتهم أرجلهم لمكان قريب من الاشتباكات، فأُلقي القبض عليهم بالخطأ، وعلى قائم مكتب أمين الشرطة كان يستند شاب مسيحي لا يتجاوز عمره الثمانية عشر عاما ويصرخ: (أنا مسيحي يا باشا.. ومفيش حاجة اسمها الإخوان المسيحيين) إلا أنه مكث محتجزا 10 ساعات تقريبا حتى تتأكد الشرطة أنه مسيحي ولا ينتمي للإخوان، كما كان بين المحتجزين من يعاني مشاكل عقلية، ومن تم اعتقاله عند نزوله من أوتوبيس نقل عام».
المقطع السابق من شهادة الزميل إسلام الكلحي الذي ألقي القبض عليه أثناء قيامه بعمله الصحفي يوم 25 يناير الماضي، يؤكد أن من تفرقهم السياسة ربما تجمعهم زنزانة واحدة، وربما تكون تهمتهم الانتماء لجماعة يصبون عليها اللعنات كل ساعة، لأن الدولة التي يدافعون عنها تضطر أحيانا لتقديم بعض دراويشها قرابين لحربها الميمونة ضد الإرهاب.
لا يفرق الإهمال بين مؤيد لمرسي وعاشق للسيسي، لا يعفي الفساد محبي مبارك من دفع الرشوة، ولا ينتقي المرض الإخوان دون غيرهم، دعوا الفقر يوحدكم في مواجهة من أفقركم ولا تتركوا السياسة تفرقكم فتزدادوا فقرًا.
***
«مشاجرة بين طلاب الأورمان بالجيزة بسبب هتافات ضد السيسي»، «مشاجرة بين مُعلمين في مدرسة إعدادية بالدقهلية بسبب صورة السيسي»، «مؤيد للجيش يبلغ الشرطة عن قيادة ابنه لمسيرات المحظورة في بني سويف»، «زوج يبلغ الشرطة عن زوجته ويكشف دورها بتنظيم الإخوان»، «مواطن يطلق زوجته داخل لجنة استفتاء بالمنيا لتصويتها بـ(لا) للدستور».
هذه عناوين لأخبار نشرتها الصحف والمواقع في الأسابيع القليلة الماضية، وغيرها عشرات الأخبار المتشابهة التي تكشف كيف أصبحت السياسة تفرق بين المرء وزوجه والأب وابنه، وتحوّل زملاء الدراسة إلى خصوم، والجيران إلى أعداء.
يتربح النظام من نشر الكراهية في المجتمع لإلهاء الناس عن مطالبتها بتحسين أحوالهم، الآن تجد السلطة من يدافع عنها ويبرر أخطاءها ويتجاوز عن سقطاتها ويتحمل تقشفها حتى لا يشمت الخصوم، وتستخدم الإعلام لتعميق استقطاب يحقق لها مكاسب آنية لكنه قد يتسبب في حرب أهلية على المدى البعيد، وإن كان هذا ليس مستغربا من شريحة حاكمة لا تسعى إلا لوراثة مقعد الحكم والاستمرار فيه، فإن الغريب حقا مشاركة الناس في إنجاح هذا السيناريو بهمة منقطعة النظير.