لم أكن قد دخلت قصر الاتحادية منذ سنوات.. غير زيارة للدكتور مصطفى حجازى عقب توليه منصبه. المكان يحمل الكثير من الذكريات، فتلك السلالم شهدت باكورة حياتى الصحفية فى جريدة «نيويورك تايمز»، وكنا نمكث ساعات طويلة فى انتظار كلمة أو معلومة من الدكتور أسامة الباز، مستشار الرئيس حينها، والدكتور مصطفى الفقى، وطبعاً وزير الخارجية الأشهر عمرو موسى. على تلك السلالم تعلمت أول دروس الصحافة.
انقطعت صلتى بقصر الاتحادية بعد ذلك، ومنذ أن اقتصر العمل الصحفى فى عهد صفوت الشريف على تلقى المؤتمرات الصحفية وكتابتها.. ولم أكن أظن أن تلك صحافة. وتمر السنون وفى عهد الرئيس مرسى دعيت أربع مرات للقاءات صحفية مع عدد من الزملاء، واعتذرت فى كل مرة. فلم يكن من الممكن أن تطأ قدماى قصر الرئاسة فى عهد رئيس قناعتى أنه خائن.. وما كان من الممكن أن أقبل بأى حال من الأحوال أن أجلس معه على طاولة هو رئيسها، أو حتى أن أتحمل وجوده داخل القصر الذى كاد يدمره، كما كاد أن يدمر مصر لولا عناية الله وجهد موظفى الرئاسة الذين حافظوا على كل غال ونفيس داخل جدرانه.
فى الاتحادية، التقيت الرئيس عدلى منصور. واختارت الرئاسة أن يكون الحوار فى القاعة المعلقة بها سجادة «القطر المصرى» الشهيرة. تلك السجادة الحريرية التى صنعت فى دمنهور فى عهد الملك فؤاد الأول، وتحمل خريطة مصر بحدودها الجنوبية متضمنة حلايب وشلاتين، فهى قيمة تاريخية، كما تحمل علم مصر القديم والتاج الملكى. المذهل أن هذه السجادة قد اختفت فى عهد مرسى، ويبدو أن الإخوان أرادوا إخفاء أى دليل على أن حلايب وشلاتين مصرية.. لذا كانت تصريحات مرسى التى أشعلتنا غضباً.. لكن القائمين على محتويات قصر الرئاسة- ولهم كل تحية- احتفظوا بها فى مكان آمن، كما احتفظوا بكل الآثار والمقتنيات الثمينة كى لا تطولها يد التخريب والعبث، فتتار العصر لا يدركون قيمة التاريخ والتراث.
امتد حوارى مع الرئيس ساعتين كاملتين، والحقيقة أعترف بأننى اكتشفت رجلاً لم أكن أعرفه، فاسترساله لا ينقطع، وآراؤه مبنية على معلومات، ودقة لا تحمل تأويلات، والقاضى يظهر فى كل إجاباته بدقته ورصانته واختياره للألفاظ.
لكن الأهم من ذلك هو ذلك الصدق الذى تشعر به بين حنايا الجمل: صدق لا يمكن أن تخطئه. فالقاضى يعترف بأنه كان يفضل عدم تحصين أعمال اللجنة العليا للانتخابات، لكن المصلحة الوطنية واحتمالات الطعن التى قد تطيل مدة إعلان الرئيس إلى ستة أشهر جعلته ينحاز إلى المصلحة العامة، ويصف فى مكان آخر أن مصر تحكمها مؤسسات، وأن ما يشاع حول حكم السيسى لمصر غير وارد، وإنما هى أجندات نخبوية.
ويعترف «المواطن» عدلى منصور، رئيس المحكمة الدستورية السابق، بأنه تردد فى قبول المنصب الذى سمع عن تكليفه به على شاشة التليفزيون من بيان قرأه السيسى فى 3 يوليو، لكن خوفه من حرب أهلية جعله يقدم على المسؤولية.
لم يطلب الرئيس فى أى لحظة طوال الحوار إيقاف التسجيل أو حذف أى جزء، لم يتململ طوال الساعتين. كان دائماً هادئاً وخلوقاً، لكنه حاسم غير متردد. وانتهى حوارى بشكر قدمته للرئيس كمواطنة مصرية على تحمل المسؤولية، فإذا بدمعة ألمحها فى عينيه تأثراً بما قلت. خرجت من القصر بعد أن وجهت التحية لكل من به: الحرس الجمهورى الذى حافظ عليه، وتحمل أداء السلام لمن لا يستحق فى عهد الإخوان، مكتب الرئيس الذى يحيط به ويمدونه بالمعونة والمعلومات، ورجال القصر الذين حافظوا على محتوياته واتهموا باطلاً بأنها سرقت فى عهد مبارك، بينما هم كانوا حراساً عليها من مبارك إلى مرسى وإخوانه.
سيدى الرئيس.. أعيد شكرى ليس للحوار، ولكن لأنك تحملت المسؤولية فى وقت صعب، وقت قفز من سفينتنا الكثيرون، وأعدت لنا الثقة فى مؤسسة انتهكها البعض عدواناً والبعض الآخر جهلاً.. وأعدت لنا الأمل فى رجال يعملون من أجل الله والوطن فقط.