«أعادت شركة مياه الشرب بسوهاج تشغيل محطات مياه الشرب، بعد انخفاض نسبة (العكارة) فى مياه النيل، والتى كانت قد أحدثتها السيول». هذا ما قاله الخبر الذى يحمل إسقاطًا أكبر على كل ما يحصل فى مصر التى أصبحنا نحلم بأن تنخفض فيها نسبة العكارة التى خلفتها الحوادث فى الفترة الماضية. مدير محطات المياه كان يرى أنه من المستحيل أن تقوم الماكينات بعملها فى ظل كل هذه العكارة، وأنه يجب عليها أن تتوقف تماما حتى تعود المياه رائقة. هذا بخصوص الماكينات فما بالك بـ(البشر)؟! العكارة التى خلفها الجميع فى النهر هى أكثر ما يحتاج إلى وقفة هذه الأيام، وخارطة الطريق تحتاج إلى مراجعة بعد أن أصبحت مصدرًا للقتل والتشويش والمنع، القتل يطول الجميع، من يحمى خارطة الطريق ومن يتحفظ عليها. والتشويش على برنامج ساخر هو هدية عيد الأم من الدولة العميقة لكَهَنَة الخارطة، ومنع مطرب يشتبه فى أنه صوت لثورة يناير هو أضحية الأجهزة الأمنية بمناسبة عيد الفن. ولا أحد ينتبه للعكارة التى يخلفها أينما حل. عندى أكثر من كاتب صديق يكتبون على فترات فى الصحف اللبنانية، فى الفترة الأخيرة عند مطالعة مقالاتهم بتّ أتجول فى بقية أبواب الصحيفة، وأشعر بالذعر إزاء ثلاثة أو أربعة أجيال متعاقبة من الكتاب اللبنانيين لا يزالون يتحدثون فى الموضوع نفسه الذى بدأ من نهاية السبعينيات ولم يتوقف، كان الواحد ينظر إلى نبرة التحيز والانقسام فى مقالات هؤلاء الكتاب باندهاش، ثم صرت أنظر إليها بقلق شديد، فما الذى يضمن أن لا نقضى على هذه النبرة قبل أن تستفحل وتتعمق فى الوعى العام وتورث من جيل إلى جيل؟! تأمل المشهد.. غربان تنعق من خارج البلاد تحتفل بدماء الجنود، والأصوات المحسوبة على الأفكار الوطنية، لا الاتجاهات السياسية، يتم تجميد وضعها فى الزنازين حتى يمر الوقت فى مصلحة (تمكين) جديد. وأصحاب ثأر أصبحوا مهوَّسين بصناعة القنابل البدائية ونثرها فى كل مكان. وإعلام يضيِّق الخناق من أجل أن تسير الدولة فى اتجاه واحد، غيرَ مهتمة بالنظر إلى الخلف ومراجعة مواقفها. وجموع يزيد توترها بحثًا عن إجابة السؤال (هايترشح ولا مش هايترشح؟). والكلام عن المصالحة خيانة، لأن النظرة إلى الموضوع واحدة «نظرة حرب». وسأفترض معك أنها نظرة صريحة، فما الذى قدمته خارطة الطريق لتنهى هذه الحرب؟ إذ الأمر معلق عند كل طرف ومتروك على ما هو عليه كمصدر متجدد للعكارة، وإبداء العداوة عالية الصوت هو تمام العمل الوطنى المخلص. لا أحد يفكر فى الأمر بواقعية، ولكلٍّ جمهورُه الذى يزيده ضلالًا، وكلمةُ الحق ثقيلةُ الدم، لأنها ببساطة تريد من كل جهة أن تعترف بأخطائها وتجتهد فى تصحيح نياتها ومساراتها. تحية لمدير محطات مياه سوهاج الذى جمّد الوضع تمامًا وأوقف ماكيناته حتى تزول «العكارة» والمجد لمن تحملوا العطش حتى زالت.
عمر طاهر يكتب: بعد انخفاض نسبة العكارة
مقالات -
عمر طاهر