يا ترى ما هو شعور أقارب الجنود الـ6 المقتولين غدرا وغيلة في كمين مسطرد حين يطالعون صور أبنائهم وإخوتهم على مواقع الصحف بامتداد شبكة الإنترنت؟
تخيل أن تظل لسنوات كلما بحثت عن اسم أخيك الشهيد أو ابن عمك على أحد محركات البحث، تطالعك صورته غارقا في دماه أو وهو مبتورٌ جزء من جسده في لحظاته الأخيرة.
من المتعارف عليه في مهنة الصحافة (النسخة المحترمة منها) أن هناك محاذير أخلاقية ونفسية في نشر صور القتلى والجرحى والمصابين، نظرا لما تخلفه من أثر سيئ في نفوس عائلاتهم.
ماذا لو لا قدر الله أصبت في حادث سير، وفوجئت بصورتك غارقا في دماك على صفحات الجرائد بعدها بيومين؟ كيف ستتعامل نفسيا مع صورتك في واحدة من أضعف حالاتك الإنسانية؟
وكيف يمكن أن تتعامل زوجتك أو أمك أو ابنتك مع صورتك، مدهوس العظام، أو مشوه الملامح أو مقطع الأوصال (حفظ الله القارئ)؟
لكن عددا من الصحف المصرية في الأشهر الماضية لا تتورع عن نشر صور القتلى غير آبهة بأبجديات وأخلاقيات المهنة، كمهنة إنسانية في المقام الأول، وكمهنة لها قواعدها المتعارف عليها.
فقبل أسابيع قليلة، فوجئنا بنشر صور جثث متجمدة لشهداء سانت كاترين في عدد من المواقع الإلكترونية والصحف، وكأن هذه الجثامين بلا حق في الخصوصية وبلا نصيب من الاحترام بعدما غادرت دنيانا في ملابسة مؤلمة وموجعة.
وقبل يومين، انتشرت صور جثث الجنود الشهداء، وكأنها بلا قداسة في ضجعتها الأخيرة.
تعتقد الصحافة أنها قد تضطر اضطرارا لنشر بعض الصور المفجعة، للفت انتباه العالم إلى كارثة معينة يتوجب تدخل الضمير الدولي أو المجتمعي لوقفها.
والمثال الأشهر هنا هو صورة «فتاة النابالم العارية» التي التقطها المصور الفيتنامي الشاب آنذاك «نيك أوت» في نهار الثامن من يونيو عام 1972، للطفلة البالغة من العمر 9 سنوات، بينما تجري عارية تصرخ من سخونة النابالم الذي صهر ملابسها وأجزاء من بشرتها وشعرها.
والصورة لمن طالعوها، أو يودون مطالعتها، صادمة فوق ما يحتمله شعور أي إنسان سوي.
طفلة ذات 9 سنوات تجري وتصرخ «إنها ساخنة جدا..إنها ساخنة جدا» بعدما ضربت القوات الأمريكية (أو الفيتنامية الشمالية بالتنسيق مع نظيرتها الأمريكية) قرية الطفلة بالنابالم الحارق.
ورغم تلقي الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون للصورة بالتكذيب والإنكار، إلا أنها هزت ضمير العالم أجمع، بعدما هالته تعابير الفزع على ملامح الطفلة العارية التي تجري كأن الجحيم وراءها.
واعتبرت الصورة من عوامل التعجيل بإنهاء الحرب الأمريكية على فيتنام.. وأدت دورها المطلوب ضميريا وإنسانيا، للحد الذي دفع الطيار الأمريكي الذي قام بتنسيق الهجمة، بالاعتذار لهذه الطفلة عام 1992 طالبا صفحها وغفرانها.
وملابسات الصورة، كما يتضح، أعقد من أن تسن قاعدة تبيح نشر صور المصابين والقتلى والجرحى، على أنه من الأمور الاعتيادية.
وربما سيجعجع بعض المنتسبين للصحافة (دون الانتساب لأخلاقها) بأن الإعلام ينبغي أن يظهر للمصريين بشاعة الفعل الإرهابي وطبيعة الحرب التي نخوضها ضد الإرهاب ويخوضها ضدنا، وهي حجة واهية متهافتة وأتفه من أن يرد عليها..
إذ إن الادعاء كله زور، لما كانت الدولة محتشدة إعلاميا وشعبيا ضد الإرهاب وأطيافه وأشباحه وكل من ينتسب له، دون الكثير من التروي ودون الكثير من التحقيقات الاحترافية اللازمة التي تثبت صلة المتهم بالفعل الإرهابي (ممارسة أو تخطيطا أو تحريضا) أو تنفيه.
فعلى الرغم من الشهور الصعبة التي تعايشها مصر والتي لا تمر دون دماء مهدرة، ولا جثث مسجاة، فإن تطبيع مشاهد الدماء أمام الوعي العام داع للتبلد أكثر مما هو داع للغضب.
وفي صور الجنود الشهداء تحديدا، مسؤولية مضاعفة، على الجهة التي سربت صورهم من مسرح أحداث الجريمة (سواء الجيش أو خلافه) ثم على وسائل الإعلام التي تعاملت مع الجثامين التي آبت لحضرة ربها، على أنها سلعة مجزية في الدعاية للحرب على الإرهاب.
ربما من الأجدى أن نتساءل عن مسؤولية أجهزة الدولة المختلفة في مواجهة الإرهابيين والقتلة، بدلا من أن نبكي جوارهم شهداءنا وكأنه لا شيء بيدنا مطلقا.
وربما من اللازم أن نتوقف عن هذه الممارسة الرخيصة في نشر صور الشهداء، استجداء لمشاعر ملتهبة بالفعل، أو دعما لغطاء الحرب على الإرهاب الذي لا يبدو أننا نحاربه أصلا!